"زمان الوصل" تنقل شهادة صحافي استقصائي مخضرم عن العنف الأسطوري في سوريا

الشيء الأشد غرابة أن تكون إنساناً وسط كل هذه "اللا إنسانية".
شيخ كبير السن حثني على تصوير شيء ما.. خليط من دم متجمد ولحم.
ذهبت لزيارة مجموعة نشطاء سلميين، لكن رجلاً فاجأني بالسؤال إذا كنت قد حضرت لتصوير "الجثث"!
هل يعقل أن تعود الطائرة لقصف ما دمرته قبل لحظات، ولقتل من نجا من القصف الأول؟؟!
هذه الخطوة على صغرها قصمت ظهري، فاكتفيت بالنظر إلى الأرض وبدأت البكاء.
قصّ الصحافي الاستقصائي "أوللي ليمبرت" عن فترة الأسابيع الخمسة التي قضاها في سوريا، وعما عاينه من مستوى عنف "أسطوري"، وكيف سحقت مشاهد القتل مشاعره وشلّت قدراته، فيما يحاول أن يتماسك، لينجز العمل الذي خاطر بحياته لإنجازه.
يروي ليمبرت، عن تجربته التي تولت "زمان الوصل" ترجمتها بشكل خاص:
صورت وثائقيات في مناطق الحروب طوال السنوات العشر الماضية، وأعلم أنّ العمل في منطقة نزاع هو بالتأكيد تجربة مزعجة بل هو التجربة الأكثر ترويعاً التي يمكن أن تمر بها في حياتك، لكن مع ذلك فمن السهل النسيان، خلال أيام أو ساعات من وصولك إلى منزلك.
إن المشاهد التي ما تزال مستقرة في ذاكرتي، تعود إلى أسابيع وشهور قضيتها في أماكن مثل هلمند في أفغانستان أو مستشفى ميداني في العراق، لكني خلال الأسابيع الخمسة من الخريف الماضي، بدأت مشروعاً جديداً، حيث قمت بتصوير وثائقي في سوريا، دون أن يكون لدي أي استعداد لما سأعاينه من مستوى عنف "أسطوري"يفوق حد التصور، إلى حد أني لم أشهد له مثيلاً خلال كل تجاربي.
عقب عبورنا إلى سوريا من تركيا، أخذني مرافقيّ إلى مكان التصوير المستهدف، وادي العاصي في محافظة إدلب، حيث ترى جمال الريف السوري، لكنك تقف أيضاً على خط "تماس طائفي"، يتمركز على جانب منه مقاتلون سنّة من الجيش الحر، وعلى جانب الآخر، وعلى بعد يقارب 1.5 كيلومتر، يتحصن العلويون في قراهم محميين بحاجز عسكري تابع للنظام، وجيد التسليح.
خلال اليوم الثاني من رحلتنا ضمن مناطق الثوار، قصفت مواقع جيش بشار القرية التي كنا فيها، في البداية لم يكن الصوت مزعجاً،ولكن بعد لحظة دوى صوت قوي، نجم عن سقوط قذيفة في مكان قريب منا.
بعد دوي أصوات 4 انفجارات، توجّهنا إلى المستشفى الميداني لرؤية ما حدث، وبينما كنت أخرج من السيارة، أمسك شخص يدي وسحبني إلى "غرفة الإسعاف"، وهناك كان رجل في منتصف الستينات مستلقياً على ظهره، ووجهه مغطى بالغبار، وقد أصيب في ساقه بشكل مريع، فيما بدا الفريق الطبي شبه عاجز عن فعل شيء، فنظرت إلى الرجل العجوز وهو نصف واعٍ ويرتعش، لكنها كانت ارتعاشة الموت حيث قضى بعد دقائق قليلة.
الرجل الذي جذبني لرؤية هذا المشهد، عاد وشدني من يدي ليأخذني إلى غرفة مجاورة، كانت مظلمة جداً، فأشعل الرجل قداحة سيجارة، وعلى شعاع ضوئها الضعيف عاينت رجلين مصابين بشكل بالغ السوء.
اثنان يقبعان في الظلام، أحدهما كان يصدر حشرجة غريبة، فعرفت أنه يلفظ آخر أنفاسه، أما الآخر الذي كان يحاول الوصول إلى صديقه المسجى بجانبه (ابن عمه) فقد كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، مصراً على أن تكون هذه كلماته الأخيرة.
الرعب المظلم بجانب الصمت المطبق جمّدني للحظة، فسألت نفسي إذا ما كنت مدركاً لما أراه؟، ثم ما لبثت أن شغلت التصوير الآلي وحرصت على إبقاء آلة التصوير ثابتة. طلبت من الناس خلفي أن يكونوا هادئين، حتى لا يشوشوا على وضوح كلمات الرجل المحتضر، بينما أصوره!
خارج المستشفى، جاءت سيارة وعلى متنها 3 جثث مشوّهة في الظهر، احتشد الناس حولها، وما انفتحت فرجة في الحشد، حتى اندفعت لتصوير الجثث،كان مشهداً مفزعاً بحق، ولذا شغلت التصوير الآلي مرة أخرى، فأنا لم أكن أضمن ردود أفعالي على ما يجري أمامي.
رجل كان يقف في الشاحنة، رفع لي شيئاً لتصويره، لكن الشمس كانت في عيني ولم أتبن ما هو، ولما تقدم الرجل أكثر رأيت قدماً مقطوعة، كدليل على همجية الحادث، هنا توقف تنفسي لبضع ثواني.
كنت أريد البحث عن قصص بعيدة عن العنف، وعقب 3 أيام ذهبت لزيارة مجموعة نشطاء سلميين أسفل في الوادي، لكن رجلاً ظهر في مدخل الوادي سألني إذا كنت قد حضرت لتصوير "الجثث"، وهنا تشوشت تماماً قبل أن يقودني إلى مسجد مجاور، حيث كانت 3 جثث مغطاة، ومسجاة على سجادة ملطخة بالدم، أخبروني أنها لأم وأطفالها الصغار.
طلبت أن يأخذوني إلى المكان الذي سقطت فيها هذه الأم مع أطفالها، وعندما نظرت إلى الحفرة التي خلفتها القذيفة، رأيت كيف وقعت على مقربة من حديقة المنزل الذي بدت جدرانه ملطخة بالدم.
في موكب الجنازة، حملت جثة طفل صغير عالياً، كان الدم يقطر من النقالة حالما رفعوه فوق رؤوس الحشد، كنت قلقاً من عجزي على تصوير المشهد.
خلال الأسبوع الثاني من رحلتي هنا، كنت أحاول النوم بالكاد فلا أقدر، فقدت كل ثقتي فيما كنت أعمل، وأصبحت أتغوط (لا إراديا)، فأدركت أني كنت أواجه حملاً حسياً وعاطفياً زائداً.
لكن الأسوأ لم يأت بعد، ففي أحد الأيام، سمعت أنني يمكن أن أجري مقابلة مع "جمال معروف، قائد لواء "شهداء سوريا"، أقوى الفئات الثائرة في المنطقة.
أُخذنا لمقابلته في بيت مجهول في قرية تدعى البارة، وبعد فترة قصيرة من بدء التصوير اهتز البيت بينما كانت طائرة للنظام تحلّق فوقنا، وأسقط القنبلة الأكثر تدميراً على البلدة.
كنت أقف في المدخل محاولاً رؤية الطائرة، عندما طرحني الانفجار على الأرض، لقد سقطت القنبلة على بعد يقارب 300 متر منا، حتى "جمال" كان مصدوماً، وبسرعة تبادر إلى ذهني أن تصوير الرجل في هذه الحالة يبدو "مشهداً جيداً".
وبينما كنت أفكر في كيفية تركيز العدسة على المشهد، رأيت أمراً مروّعاً وبشعاً للغاية. بجانب الحفرة الضخمة، شيخ كبير السن حثني على تصوير شيء ما على الأرض.. خليط من هلام (دم متجمد) ولحم.
فجأة أدركت ما كنت أنظر إليه، إنها بقايا شخص كان حياً قبل لحظات، وقتل بوحشية ومباغتة قذرة. وبينما كانت الجثة غارقة في الركام والغبار، كان من الصعب جداً أن تميزها بأنها جثة إنسان.
التوى وجهي، وتشنج فكيّ، وجحظت عيناي، وأنا ما زلت أصور، كان غريباً أن يصيبني الرعب بهذه الدرجة وأبقى قادراً على التصوير، لكن الأشدّ غرابة أن تكون إنساناً وسط كل هذه "اللاإنسانية"، أي أن لا تكون مجرد كائن آلي (روبوت) مجهز بآلة تصوير!
وحالما وقفت بين الأنقاض، بدأت الصيحات بالتعالي من جديد محذرة من عودة طيران بشار لتقصف ثانية، لم أعد قادراً على تصور أي شيء، وأنا أتساءل: هل يعقل أن تعود الطائرة لقصف ما دمرته قبل لحظات، ولقتل من نجا من القصف الأول؟؟!
أصبحت متأكداً أنه لو كان هناك من دورة تدريبية في مكان ما تعلّم كيفية التصرف في تلك الحالة، فهي في الحقيقة، هذه "الدورة" التي اتبعتها للتو.
تلك الليلة، تمشّيت إلى دكان صغير لشراء السجائر، هناك سألني الرجال عن سر ارتدائي ثياباً متسخة بشدة، فاكتفيت بكلمة "البارة" وأشرت نحو الشمال. وأعتقد أنهم فهموا.
سحب رجل عجوز كرسياً وجلس بجانبي لندخن في صمت، خرج صاحب الدكان وأعطاني قارورة عصير صغيرة، فتحها ووضعها فيها قشة مص، هذه الخطوة على صغرها قصمت ظهري.. اكتفيت بالنظر إلى لأرض وبدأت بالبكاء، لم أحاول إخفاء مشاعري، فقد كانت المرة الأولى -منذ فترة- التي أبدو فيها طبيعياً.
ملحوظة: صور ليمبرت فيلمين وثائقيين حول سوريا، من المقرر بثهما هذا الشهر، وهما:
"Syria:Behind the Lines" و "Syria:Across the Lines".
ترجمة: زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية