في إطار سعيه لإنهاء محنة ابن أخيه المغيب في سجون بشار السد، توصل دبلوماسي سوري سابق إلى معادلة مفادها أن المال المناسب في يد الشبيح المناسب في الوقت المناسب، يمكن أن تشكل مفتاحا لإطلاق سراح قريبه المعتقل.
ونشرت شبكة "سي إن إن" رواية من قالت إنه مسؤول سابق عمل لدى وزارة الخارجية السورية، قامت الشبكة بحجب اسمه على طلب هذا المسؤول، لدواع تتعلق بأمنه.
حلم سوري
يسرد المسؤول السابق روايته قائلاً: بينما كنا نمشي في الممر، همس في أذني طالباً أن أنظر إلى ابن أخي الذي كان ينحني ويحاول التقاط بالون آخر بكلتا ذراعيه.. تمالكت نفسي لتجنّب الضحك، عرفت أن الطفل سيضحكني بالتأكيد في وقت ما أثناء حفل زفافي.
زفافي لم يكن مبهرجاً وضخماً كما هي العادة في حلب، إلا أنه لم يزل حدثاً مهما حياتي. لسبب ما، تلك اللحظة من الذاكرة هي التي تراود مخيلتي هذه الأيام، وهي التي تجعل من غيابه أمراً لا يطاق أبداً.
كان منتصف يوم رأس السنة الجديدة، حيث كان يشرب الشاي ويتابع التلفزيون، كان هناك صوت خطوات ثقيلة على الدرج، يعيش السوريون خوفا من تلك الأصوات عادة، لابد أن قلبه قفز، كان هناك ثمانية منهم يلوّحون ببنادق كلاشنكوف، اقتحموا الباب وعصبوا عينيه، اقتيد خارجا وأخذ إلى مكان لا أحد يتمنى المرور به، ناهيك عن زيارته.
لا أعرف إن كان التعذيب بدأ في السيارة أو عندما وصلوا به مقر الأمن، لكنني أعرف بأنّ هؤلاء الرجال يتدرّبون على عمل شيء واحد.. تعذيب الناس، حتى أولئك الذين ليس لديهم فكرة عن سبب إخضاعهم للتحقيق.
قبل الثورة، كان "التحقيق" إجراء مرتبطاً بأسباب محددة جداً، مثل أن تطلق علناً نكتة حول الرئيس، أسرته، عائلته الكبيرة، أحد جيرانه، أصدقائه المفضلين أوحتى كلبه، وربما تخضع للتحقيق لكتابة مقالة أو تدوينة على الإنترنت تنتقد فيها النظام، ودائماً على المعتقلين أن يعترفوا بإضعاف الشعور القومي والمسّ بهيبة الدولة.
عندما بدأت الثورة قبل سنتين، أماكن الاعتقال امتلأت حتى التخمة بـ "الإرهابيين" الذين تجاسروا على التظاهر.
لكنه (ابن أخي) لم يطلق نكتة عن الرئيس، ولا عائلته أو كلبه، و لاكان مرتبطاً بـ"نشاط إرهابي" مثل المظاهرات، كلّ ما فعله أنه كان يعمل في سوق قديم بمدينة حلب، حيث كان ينتظر قدوم السياح، دون جدوى.
أصدقائي صدموا بي عندما قلت إنني أفضّل لو أنه مات على أن يتم اعتقاله، ما لايعرفه أصدقائي أن الموت السريع حلم سوري، لاتحتاج سوى للتمعّن في المقاطع المصورة على الإنترنت لتشاهد التعذيب وتفهم أن الموت السريع بديل إيجابي.
أنا أفضّل أن أسمع خبر موته، الموت بلاشك أمر يصعب تحمله، لكن انتظار وقوعه أمر أشد صعوبة.
وداعاً
هذا السيناريو يتكرّر كلّ يوم في سوريا، يؤخذ الشباب والنساء ويعذّبون، فمن عمل بشكل نشط ضدّ النظام يُقتل، أما الآخرون فيتحولون إلى مصدر رزق ممتاز لموظفي أجهزة الأمن، فالعوائل المفجوعة مستعدة للتخلي عن كل شيء لإيجاد مال الفدية الذي سيضمن إطلاق أبّ أو أخّ.. إنها تجارة مزدهرة، تجارة البشر على الطراز السوري.
أعرف ما يكفي من الأحداث التي تقع خلف الأبواب الموصدة في مراكز الأمن السوري، كما إنه ليس من الضروري أن أتشدق بالعبارة المعتادة للصحافيين (لم يتسنّ لي التحقق من هذه القصّة بشكل مستقل)، لأنني ببساطة دفعت مالاً لأحد رجال الأمن، الذي أكد لي أن أطراف الشاب ما زالت "شغالة"، وأن جلده لم يحرق بعد.
البعض من المعتقلين المعذبين لا يمكن معرفة ما إذا كانوا أحياء أم قتلوا، ثلاثة من جيراننا اعتقلوا في نفس الوقت قتلوا بعد مرورهم بمحنة التعذيب، وربما لذلك لم يتم إرجاع جثامينهم إلى عوائلهم.
إذا كنت معتقلاً في سوريا، فإن قائمة أمنياتك يجب أن لاتتضمن الموت بسرعة فقط، بل كذلك السماح بإقامة جنازة لك، أي إتاحة الفرصة لعائلتك لتقول لك وداعاً.
عوائل سورية عدة لم تتسلم قط جثامين أحبائها، حتى لا يكون أفرادها شهوداً على تعذيب شنيع، أو مخافة تحول الجنازة إلى مظاهرة.
أصدقائي تمنوا علي أن أشعر بأني محظوظ! لأني أعرف مكانه (يقبع في فرع أمن سيئ السمعة)، ولأن المال المناسب في يد الشبيح المناسب بالوقت المناسب قد يضمن إطلاق سراحه!
دليل الحياة
أرفض الشعور بأني محظوظ، وأرفض التعوّد على غيابه كما أرفض التفكير بشكل إيجابي. تمتعت دائماً بتحليل ما يجري من حولي، الأحداث والدوافع والنتائج. الآن، وللمرة الأولى، لا أرغب بتحليل أو تصور شيء، لأن ذلك سيضعني أمام أسئلة مؤلمة ولا متناهية.
بماذا كان يفكر عندما أوقفوه في الشارع معصوب العينيين ومواجهاً للحائط، بينما وصلت السيارة لأخذه، هل كان يفكر بالأطفال؟ بأمّه؟ بي؟
بدلاً من بذل جهدي في التقاط المعلومات، بدأت أجوب الشوارع، أبحث عن إنسان قد يعرف شخصاً ما يعرف أحداً ما، و عن طريق الحظ وبعض المال علمت أنه متهم بنشاطات إرهابية مساندة للثورة.
ثمّ بدأت بالمرور على الأرقام القديمة المخزنة في هاتفي، حتى تلك الأرقام التي بقيت في هاتفي لأني لم أملك وقتاً كافياً لحذفها!
"آسف ياعزيزي، تركت تلك المهمة منذ زمن طويل"، ردّ من زميل سابق في المدرسة.
"لاتقلق، أنا سأتولى أمره وأهتم به! فقط لاتقلق" زميل سابق آخر، لم أعد أتلقى منه شيئاً فيما بعد.
"هل يمكنني أن أساعدك مادياً في تأمين الفدية المطلوبة"؟.... أتنهّد وأسخر من قدرتنا على فهم هذا النظام.
سأدفع ما أستطيع أو لا أستطيع لضمان إطلاق سراحه، لذا، تركّز العائلة والأصدقاء على هدف واحد: التعرف إلى الشخص الذي يستطيع المساعدة على تحريره مقابل المال.
في البداية دفعنا إلى مخبر تابع للنظام ليأتينا بـ"دليل الحياة".. سؤال وحده ابن عمي يعرف جوابه، كان السؤال الأصعب الذي كان علي طرحه.. ما أغنيته المفضّلة؟ وما اسم حبيبة طفولته؟
الآن نعرف بأنّه حيّ. لكنّنا ما زلنا لا نعرف إن كنا سنراه ثانية.
ترجمة: زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية