مطران وجولان
نقلت وكالة سانا للأنباء اليوم الخبر التالي: "وجه المطران عطاالله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس التحية لأهالي الجولان السوري المحتل على صمودهم وثباتهم وتمسكهم بوطنهم الأم سورية. وتضامناً مع أهالي الجولان العربي السوري التقى المطران عطالله حنا خلال زيارته للجولان المحتل شباب الجولان الذين اعتقلتهم سلطات الاحتلال مؤخراً وهم الآن قيد الإقامة الجبرية في منازلهم إضافة إلى شخصيات الجولان البارزة ووجهائه وقياداته الوطنية، مؤكداً أهمية صمودهم في مواجهة إجراءات القمع لقوات الاحتلال الاسرائيلي حتى النصر وعودة الأرض المحتلة إلى حضن الوطن".
مع وكالة سانا للأنباء، تشعر دائماً أنك في عالم آخر، تماماً كالدراما السورية التي بنيت على الفنتازيا في "الجوارح" و"البواسل" و"الكواسر" وغيرها من مسلسات الشجعان. ولذا ينبغي على المرء التوقف عند كل كلمة والشك في صدقيتها، بل من المفيد التعامل معها دائماً استناداً لشعارٍ رفعه أهل مدينة دوما فيه كل الخلاصة في بداية الثورة "الإعلام السوري كاذب". فإذا ما أراد المرء الحيطة والأمان فعليه أن يرجِّح احتمال الكذب كأساس في قراءة أخبارها، ولا نبالغ إن قلنا إنها يمكن أن تكذب حتى في علامات الترقيم بين الكلمات والعبارات.
الكلام المنقول على لسان المطران، كما يقول خبر سانا، يوحي وكأن السيد المطران هو واحد من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، وربما كان مسؤولاً عن التثقيف والإعداد الحزبي. بالطبع الاحتمال الأكبر هو أن المطران لم يقل هذا الكلام بحرفيته، وإنما تأتي الإضافات والبهارات الزائدة من أولي أمر الإعلام السوري.
عندما يسمع المرء هذا الخبر يعتقد أن سكان الجولان جميعهم موجودون تحت الاحتلال الإسرائيلي، في حين أن واقع الأمور غير ذلك. لقد احتلت إسرائيل ثلثي هضبة الجولان في حزيران عام 1967، وكان عدد قرى الجولان آنذاك 164 قرية، إضافةً إلى 146 مزرعة، وكان عدد سكانه 154 ألف نسمة. احتلت إسرائيل 137 قرية و112 مزرعة إضافة إلى القنيطرة ودمرتها. وبلغ عدد القرى التي بقيت بسكانها 6 قرى فقط: مجدل شمس ومسعدة وبقعاتا وعين قنية والغجر وسحيتا. نزح أكثر من 131 ألف نسمة إلى دمشق ودرعا، ويبلغ عددهم حالياً نحو 800 ألف نسمة، ويعيشون في دمشق وضواحيها ودرعا، وبقي 8 آلاف جولاني في القرى الست الباقية، ويبلغ عددهم حالياً 20 ألفاً.
اختزل المطران، أو على الأرجح وكالة سانا، الجولان وأهله بعشرين ألفاً مقيمين تحت الاحتلال، وحزن على اعتقال بضعة شباب منهم أفرجت عنهم إسرائيل فيما بعد. والتقى سيادته، وفقاً لخبر الوكالة، بشخصيات الجولان البارزة ووجهائه وقياداته الوطنية. إن كان ذلك صحيحاً فإنه يكون في أحسن الأحوال قد التقى بقيادات أو شخصيات تعبر عن العشرين ألفاً تحت الاحتلال فحسب. أما الـ 800 ألف جولاني نازح الذين يقيمون في دمشق ودرعا، فإنهم منسيون في فكر المطران، كما كانوا ولا يزالون منسيين في عرف نظام المقاومة والممانعة طوال 45 عاماً.
نريد أن نخبر السيد المطران أن أهل الجولان يقيمون في دمشق وما حولها، في الحجر الأسود ومخيم اليرموك والست زينب والذيابية والقدم والعسالي والتضامن وشبعا ونهر عيشة وجديدة عرطوز، ومخيم درعا للنازحين، وغيرها. أما أوضاعهم فهي أسوأ بكثير جداً من أوضاع الجولانيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، فبيوتهم هُدِّمت وحُرقت، ونهبت أموالهم، وقتل المئات منهم، واعتقل وعُذِّب المئات أيضاً، واضطر مئات الآلاف منهم للنزوح من بيوتهم مرات عدة داخل بلدهم بسبب القصف الهمجي لنظام الممانعة، وهناك آلاف منهم في الأردن، بعضهم جرحى وبعضهم معوّقين.
هؤلاء يا سيادة المطران هم من يجب توجيه التحية لهم أولاً، على صمودهم وثباتهم، وهؤلاء هم من يجب أن تسأل عن معتقليهم وقتلاهم وجرحاهم. إنك، وكثيرون مثلك، كمن يرى الحجر ولا يرى الجبل، أو كمن يكترث لجعجعة الممانعة أكثر من البشر، أو كمن يؤلمه جرح إنسان على يد العدو، لكنه لا يهتم لمقتل الآلاف على يد "ابن البلد". أما عن النصر وعودة الجولان إلى حضن الوطن، فإن الواقع والتاريخ يقولان بوضوح أن هذا مستحيل بوجود هكذا أنظمة حاكمة، ونعتقد أن 45 عاماً كافية لإصدار هذا الحكم، إلا إذا كان المرء مصاباً بالعمى السياسي والإنساني والأخلاقي.
في كل مرة ينحشر فيها النظام في الزاوية تبرز إلى السطح قضية الجولان، في محاولة لستر عوراته المفضوحة بورقة الممانعة والمقاومة. هكذا فعل تماماً، قبل هذه المرة، في الفترة التي قتل فيها الحريري، فذهب نحو الدفع باتجاه تشكيل منظمة لتحرير الجولان، فإذا بها تتحول على يديه بعد فترة وجيزة، عندما خفَّت الضغوط الدولية، إلى منتدى خطابي فحسب. فالنظام لم يسمح بتشكيل مقاومة في سورية، وكان يعمل على تشكيل "مقاومات مذهبية" على أراضي الغير، في فلسطين ولبنان والعراق، كي يحولها إلى أوراق تسمح له باللعب في ساحات الآخرين، ودرء الخطر عن ساحته، والقيام بالمقايضات الضرورية كلما كان هناك تهديد مباشر له.
ما نعرفه أن النظام لم يفعل شيئاً طوال أربعة عقود من أجل تحرير الجولان، بل إنه فعل واقعياً كل ما يمكن أن يمنع تحريره في السابق واليوم. ففي وسائل إعلامه كرَّس مسألة اختزال الجولان إلى قرية من قراه هي مجدل شمس، ربما كي لا يسأله أحدٌ عن أوضاع 800 ألف من أهالي الجولان، أو ليمنع تشكل مقاومة مسلحة حقيقية من أهالي الجولان داخل سورية، أو ربما أنه لم يكن يريد من الجولان شيئاً سوى اسمه واستخدامه كحجة لقمع الحريات في الداخل.
كثيرٌ من السوريين كانوا يسألونني خلال العقدين الماضيين مستهجنين أنني لا أسافر إلى "ضيعتي"، على اعتبار أنني من الجولان، فهم يعتقدون أن الجولان قد تحرر منذ زمن بعيد، بحكم أن رؤوسهم قد ملأها الحزب القائد آنذاك بالترهات والأضاليل. اليوم السوريون يعرفون كل شيء، وما عاد أحدٌ بقادرٍ أن يكذب عليهم في شيء، وهذه إحدى فضائل الثورة، وعلى مثل هذه الفضائل يمكن إعادة بناء الإنسان والوطن، ويمكن أن تصبح بالتالي، بعد زمن، مسألة تحرير الجولان أمراً ممكناً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية