منذ الآن وحتى آخر الشهر سيكون الإعلام مركزا على سورية، لا أعرف في مثل هذه المواقف لماذا أستدعي في ذاكرتي لقاء مع الرئيس المرحوم حافظ الأسد، الزمن كان بعد تحرير الكويت بأشهر قليلة، وفي حضور عدد من الكويتيين تحدث الرئيس حافظ الأسد حديثا إستراتيجيا حول اللحمة العربية، إلا أن العبارة التي ظلت في حافظتي الثقافية قول جبران كورية بعد أن خرجنا من حضرة الرئيس، وكان جبران وقتها الناطق الرسمي، قال مفسرا الموقف السوري وموقف حافظ الأسد من الاحتلال العراقي للكويت، إن (الأميركان) أرادوا أن يقوّضوا (يستهدفوا) العراق وسورية في آن واحد، فوجدوا أن الرئيس الأسد خلفهم!!
هذا القول أو هذا التفسير يمكن له أن يناقش، إلا أن الفكرة الجوهرية فيه والقريبة إلى الحقيقة هي أن الرئيس حافظ الأسد كان بارعا في التوقيت وفي اتخاذ الموقف الصحيح، ونجح في تجنيب سورية أولا والمنطقة بأسرها ثانيا شرور صراع سياسي عسكري قد لا يبقي ولا يذر، وكان يمكن أن يكون أكثر تأثيرا وعمقا.
البعض يقول إن هذا الموقف بالذات هو الذي أطلق يد سورية في جارتها لبنان، إلا أنني أرى أنه تفسير مبالغ فيه إلى حد كبير من جانب بعض من يتبناه، فقد كان لسورية موقع قدم في لبنان قبل ذلك، ولم يكن العالم وقتها، كما هو اليوم، يتسع لطموحات ميشيل عون، وبقية القصة معروفة.
ما تقدم ليس محاولة لتذكّر الماضي على ما فيه من إيجابيات أو سلبيات، بل محاولة للإضاءة على المستقبل.
واضح من مساق الأحداث أن هناك خلافا سوريا أساسا مع أطراف عربية، قاعدتها القاهرة والرياض، حول ما ينبغي أن يحدث أو لا يحدث في لبنان. ولكن ذلك الموقف ليس حكرا فقط على العاصمتين، فهناك عواصم عربية ترى ما تراه القاهرة والرياض في الموقف من لبنان.
وجهة النظر السورية تقول في العلن: ليس لنا علاقة بما يحدث في لبنان، فلا تلزمونا بما لا نستطيع التأثير فيه، وهذا الرد هو الرد الدبلوماسي، لكن القريب إلى الحقيقة يعرف أن سورية الرسمية تشعر بجرح عميق في طريقة خروجها من لبنان، والتي جعلت كل جهودها في إعادة السلم الأهلي (على صعوبة توافق اللبنانيين) تُنسى في لحظة، وتُحمّل كل السلبيات، من دون الإشارة إلى كثير من الإيجابيات التي رعاها في فترة طويلة المرحوم حافظ الأسد.
قد يكون هذا العتب السوري، مضافا إليه التلميح إلى استهداف أشخاص في سورية على مستوى عال من السلطة في قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري، قد يكون ذلك كله، مع غيره، استدعى ظهور مدرسة سياسية في دمشق تقول: «دعوا ما يحدث في لبنان يحدث، وشجعوا الأصدقاء في المعارضة للمضي في مشروعهم لعل اللبنانيين يتعلمون درسا في التعامل مع الجيران»!، إلا أن هذا الموقف يبدو بعيدا نسبيا عن الموقف الإستراتيجي الحصيف، وهو موقف نفسي أكثر منه سياسي، حيث إن دمشق قد حققت مركزا حاكما في السياسة العربية بنته بجدّ خلال ثلاثة عقود طوال، وكان قائما على حسابات العقل لا العاطفة المغامرة به، فالابتعاد عن الرياض وعن القاهرة في الوقت نفسه ومهما كانت الأسباب، يعرض دمشق في المدى المتوسط والبعيد لشرور قد تفقد بعدها هذا المركز الحاكم، والحديث عن وضع سوري متميز في لبنان لم يعد ذا قيمة إستراتيجية كبرى بعد كل التحولات الجيوسياسية في المنطقة والعالم.
حاولت أوروبا عن طريق ترويكا ثلاثية، إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، (الدول الكاثوليكية الثلاث)، أن تحصل على موقف إيجابي من دمشق تجاه بيروت، إلا أنها فشلت في الحصول على ذلك، بقي الموقف العربي الذي اتُّخذ، وسورية عضو فيه، لكن حتى هذه المبادرة العربية لا يبدو أنها في سبيل تحقيق موقف إيجابي.
قد يكون لدى دمشق الحق في القول إن مقايضة موقف إيجابي في لبنان (يستدعي الضغط على الحلفاء في لبنان) وهو لا يساوي فكرة عقد مؤتمر أو عدم عقده في دمشق، وهنا ربما يأتي الخطأ الإستراتيجي، فالمؤتمر سوف يأخذ أياما معدودة، وقد يعقد أو لايعقد، إلا أن نتائج عدم عقده بشكل صحي، قد تسبب الطلاق البائن بين محور دمشق من جهة، ومحور الرياض والقاهرة من جهة أخرى. وهو إن حدث فإن النجاح، حتى المطلق على الجبهة اللبنانية، لا يساوي كثيرا قطع حبل المودة نهائيا بين طرفين عربيين فاعلين لهما تحالفات وثقل في الفضاءين العربي والعالمي.
دمشق عربية ولا تستطيع أن تعيش إلا في فضاء عربي، والقطيعة تعني أنها لا تبتعد فقط عن الرياض وعن القاهرة، وهما ثقلان عربيان لا يستهان بهما، بل تغامر في الابتعاد عن دول عربية قريبة وبعيدة أخرى، وهي بذلك تجعل قدرتها على المناورة الإيجابية والتوقيت المحكم ضيقة جدا.
نعود من جديد إلى ما اتخذه حافظ الأسد في أغسطس (آب) العام 1990 فقد اختار التوقيت المناسب لمد جسور التفاهم مع كل من الرياض والقاهرة وبالطبع مع كثير من الدول العربية التي رأت أن حق الكويت لا نزاع فيه.
اليوم تفتح الأبواب لدمشق لاتخاذ قرار إستراتيجي مثل ذاك، قرار إطفاء احتمال حرب أهلية في لبنان، لن يبقى شررها مقصورا عليه، فدمشق، كمدينة، أقرب حتى من طرابلس إلى بيروت، كما أنه يأخذ الإقليم كله إلى محرقة داخلية. وقرار يجلب المنفعة الحقيقية لدمشق على المدى المتوسط والطويل، حيث يعاد ترميم اللحمة العربية الوسطى في ثلاثية القاهرة دمشق الرياض، وهي أضلاع مثلث إن استوت تحصن طريق الحق العربي في أي مكان من جروح خارجية أو انتقاص داخلي.
الأيام القليلة المقبلة التي تنشط فيها التحركات والزيارات تنبئ، مع شيء من الفارق، بأيام محاولة تقديم حل عربي في أوائل هذا القرن تجاه العراق، قلت مع الفارق حتى لا يفهم أحد المماثلة الكاملة، ولكن التشابه قائم، فإن مالت دمشق إلى حل عربي، ولو وسطا، وأنقذت القمة ورممت العلاقة بين دمشق، القاهرة، الرياض، كان ذلك مدخلا حقيقيا لتنقية ملفات أخرى، وإن لم يحدث فإنه حتى حلفاء دمشق اليوم في لبنان، قد يغير بعضهم موقفه، وهي أكثر خبرة منا جميعا بموقف السياسيين هناك لأنها خبرتهم على مدى ثلاثة عقود، وقتها يكون قد فات الفوت.
سورية لا تخطئ في الإستراتيجي .... محمد الرميحي
اوان
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية