أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبو دعاس في الأرجنتين

لا أعرف متى سافر أبو دعاس إلى الأرجنتين، ولكن يحكى أنه سافر في الزمن الذي سافر فيه جدي إلى هناك، يعني بحدود الثلاثينيات من القرن الماضي. ويحكى أنه عاد في السنة التي ولدت فيها (١٩٤٩) أو بعدها بقليل. كل ما أذكره عنه، قبل أن أبدأ بالأسئلة، أنني كنت أراه سائراً على الطريق الذي يربط الضيعة الجبلية بالحقول وفأسه (منكوشته) على كتفه وقبعته الاستوائية، التي يُقال إنها عادت معه من الأرجنتين، تحمي رأسه من الحرارة والبرد، ماداً يده للمس طرفها كلما مرّ بسيد أو سيدة قائلاً بالإسبانية:"خوله سنيوره" أو "خوله سنيور" أي مرحباً يا سيدة أو مرحباً يا سيد، إلى أن أصبح أطفال القرية يرددون هذه التحية عند رؤيته.

بقي أبو دعاس لغزاً بالنسبة لي إلى أن حان الوقت، عندما انتقل والدي الشرطي من حماه إلى دمشق فقررت البقاء ذلك العام في القرية مع جدتي التي كانت تحكي لي عند جدي أبو عطية الذي هاجر إلى الأرجنتين والذي كان غيابه يشكّل لي غصة، فكل أولاد القرية عندهم جد إلا أنا. في ذلك العام، أتيح لي أكثر من مرة، بعد أن بلغت الثانية عشرة من عمري، أن أجالس الجد أبي دعاس في الحقول، وأسأله عن جدي أبي عطية الذي بقي في الأرجنتين، وعن سبب سفرهم إلى هذه البلاد البعيدة، فقال:

من الصعب يا بني تذكر كل الأسباب التي دفعتنا للهجرة، فالتفاصيل الصغيرة تضيع مع الزمن، رغم أنها قد تكون أحيانا أهم من التفاصيل الكبيرة، ولكن ما أذكره جيداً بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على تلك المغامرة، أننا لم نكن نجد ما نأكله غير اعشاب الطبيعة، كان الجوع أسود، صحيح أنه لم يكن بقسوة جوع (السفر برلك)، ولكنه كان جوعاً على كل الأحوال، وكنا شباباً نحلم أن نبني بيوتاً ونتزوج ونرى أولادنا لا يضنيهم الجوع ويستطيعون الذهاب إلى المدرسة. كانوا يقولون لنا إن الفرنسيين المسيحيين الذين حلوا محل الأتراك المسلمين سيكونون أفضل، وإنهم سيقدمون لنا الطعام وخاصة للقرى المسيحية، مرت السنوات وبقي الفقر على حاله والجوع كما هو لا يرحم معدة مسيحي أو معدة مسلم. ثم بدأت الشائعات تغزو جبل الحلو عن أمريكا والذهب المنثور هناك، وأن من يسافر لمدة سنة سيقبر الفقر إلى أبد الآبدين، ومن يبحث عن الشقراوات سيجدهن مجاناً بالدزينة، ولست بحاجة هناك لرضى العم أو الخال أو المختار كي تعيش مع المرأة التي تريد، وتستطيع تغيير المرأة كل شهر أو كل أسبوع، فلا وجود للزواج النصراني الأبدي. كان الكلام عن النساء يلهب مشاعرنا ورغباتنا ونحن الذين كنا لا نستطيع رؤية كاحل امرأة في ذلك الزمن.

قال أبو دعاس متابعاً، بعد أن ذهب ليوجه سير المياه لري حاكورة أخرى من البندورة وعاد: كان (الناولون) وهو أجرة السفر بالباخرة إلى أمريكا غالياً جداً بالنسبة لنا، فكان منا من رهن أرضه ومنا من باع دواب الفلاحة، ومنا من اقترض من صديق أو قريب، وتوجهنا سيراً على الأقدام إلى طرابس الشام ومن هناك إلى مرفأ بيروت ثم إلى مرسيليا الفرنسية، حيث يجب أن يخضع كل مسافر إلى أمريكا لفحص طبي، فيتم رفض كل من يوجد معه مرض وهذا ما حدث مع أبيه للخوري الذي عاد إلى سوريا من مرسيليا.

وصلنا إلى أرض الميعاد، كما قيل لنا، ولم نكن نعرف في أي بلد نحن من بلدان أمريكا، فقد قالوا لنا في مرسيليا اصعدوا في هذه السفينة فصعدنا، وإذ بنا نجد أنفسنا بعد أشهر في بلد اسمه الأرجنتين. وجدنا هناك من سبقنا من السوريين، وقد حاول بعضهم سرقتنا والنصب على من كان منا معه بعض الليرات الذهبية دون رحمة ولا شفقة. أخيراً وجدت من قال لي تعال لأقدمك لأحد التجار فتعمل عنده مجاناً لقاء شربك وأكلك ونومك، فتتعلم بعض الكلمات الإسبانية قبل أن تصبح كشيش ( الكشيش هو كل من يحمل بضاعة على ظهره ويتجول في القرى سيراً على الأقدام لبيعها)، وتعمل على حسابك. عاملني هذا التاجر اليهودي كعبد طوال فترة ثلاثة أشهر، ولكنه للأمانة لم يقصر في طعامي، فقد كان رجاله يقدمون لي حاجتي وزيادة من الطعام.

قبل أن أخرج إلى البر، والخروج للبر يعني البيع بالكشة، ذهبت إلى التاجر اليهودي الذي كان يعرف العربي أحسن من الأتراك، وقلت له إنني سأذهب للعمل في الكشة وإنني بحاجة إلى بضاعة أدفع ثمنها عندما أعود، وهذا ما كان، صحيح أنه كان يبيعنا بأسعار باهظة ولكن لم يكن عند أمثالنا من بديل.

ومرت السنون يا بني، وقطعت الأرجنتين من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، تعرضت للموت عدة مرات، إما بسبب الأمراض أو بسبب اللصوص. كنت أصل نهاري بليلي كي أجمع بعض القروش لإرسالها إلى أهلي كي يفكوا رهن الأرض. لم أستطع أن أجمع مالاً، فلكي تجمع مالاً يجب أن تكون لصاً، حتى في بالتجارة، يجب أن تسرق لقمة الناس من فمهم إذا كنت تريد تحصيل الثروة، ليس هناك تجارة شريفة وأخرى غير شريفة.

بعد مضي عشرين سنة وقعت مريضاً لعدة أشهر، وكنت قد قاربت الخمسين من عمري، هذا المرض الطويل أتاح لي التفكير في حياتي قبل السفر وبعد السفر ووصلت إلى نتيجة بسيطة أنني لو كنت أعمل في سوريا نصف الوقت الذي عملت به هنا لكنت أصبحت ثرياً، يعني لكنت بنيت بيتاً من حجر واشتريت زوجاً من البقر للفلاحة وآخر للحليب، ولبقيت في بلدي دون أي إهانة أو ذل.

قررت العودة إلى سوريا والعيش فيها، فالموت فيها ولا مذلة العيش في الغربة.

(130)    هل أعجبتك المقالة (123)

فادي

2013-04-04

من نجاح الى نجاح عبر مقالاتك البسيطة يا استاذ سعد التي تحاكي الوجدان بكلمات بسيطة دون تكليف او تعقيد ويرجى منك الكتابة عن توجه اصدقائك الذين كانوا معك في السجن اليساريين الوهميين وليسوا اليسار الحقيقي الذي بنى امجاد امريكا اللاتينية نحو الازمة السورية الحالية وهل ظلوا ثابتين تجاه الثورة والحرية والكرامة ام انقلبوا مثل بقية المنقلبين نحو بسطار النظام والغريزة الطائفية ..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي