في كتابه (أرض جديدة)، يروي الكاتب الألماني إيكارت توليه قصة راهبين كانا في طريق عودتهما إلى الدير في يوم ماطر عندما استوقفتهما إمرأة مسنة تريد عبور الطريق، لكن منعها من ذلك حفرة كانت قد امتلأت بماء المطر، فقام أحدهما بحملها ووضعها على الجانب الآخر من الحفرة، وأكملا طريقهما إلى أن وصلا الدير، فالتفت أحدهما إلى الآخر وقال: كيف سمحت لنفسك بحمل تلك الامرأة وهو أمر محرم علينا، فأجابه الآخر بهدوء: أنا حملتها لثوان بيدي، أما أنت فلازلت تحملها في عقلك حتى اللحظة!
عندما تطالعنا صورة لخيمة لاجئين السوريين يعلوها شعار أزرق اللون (شعار الأمم المتحدة)، لا يسعنا إلا أن نتذكر-وإن لم ننسَ- الصور الأولى لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين وما نتج عنها بعد ذلك من ترسيخ لفكرة اللجوء والشتات، وما أدى في نهاية المطاف إلى شرذمة الأسس الجوهرية للقضية الفلسطينية.
من البديهي أن يحمل الشعب الفلسطيني تفاصيل نكبته ونكسته وتجربة اللجوء في عقله طوال 64 عاماً ونيف، وأن تترسخ فكرة العودة وتتبلور على شكل حلم في الذهنية الباطنية لشعب عانى الأمرّين تخاذلاً وتآمراً على قضيته العادلة، لكن تركيزه على جزئيات تنتهي بما بدأته وضع القضية ضمن دائرة تحولت فيما بعد إلى دوّامة حرفت بوصلة الثورة عن هدفها الأساسي وابتلعت جلّ آماله.
من بين هذه الجزئيات، كان التفات القيادات لاستجداء قرار سياسي هنا، وتعليق آمال على اجتماع عربي أو دولي هناك، ما أنتج إعادة لترتيب أولويات الثورة وإضعاف مبادئها الرئيسية، ومثال على ذلك كان الوهن الذي أصاب الصوت المنادي بحق العودة والذي قابله ارتفاع الصوت المنادي بزيادة مساحة مخيمات اللاجئين!
إلى جانب الضغوطات والمصاعب الخارجية، كانت هناك أسباب كثيرة أدت إلى ذلك، منها حالة الاستقطاب والاستقطاب المضاد التي مارسها بعض صانعي القرار آنذاك على مختلف الشرائح التي تشكل النسيج الاجتماعي الفلسطيني، فبات ولاء الفرد للفصيل أو الجماعة أو حتى لفرد ما بعينه، يطغى على الولاء للقضية والوطن.
وكمقاربة مع الوضع الراهن في سوريا، و بعد انقضاء عامين على انطلاق الثورة السورية، وبعد الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب السوري من شهداء ومصابين ولاجئين ونازحين ومشردين ومختفين ومعتقلين و.. و.. و، -مع الأخذ بعين الاعتبار ما تواجه هذه الثورة السامية من تحديات وتعقيدات- فإننا لانزال نشهد حالة من التشرذم تطغى على المشهد السياسي والعسكري لقيادة الثورة، وتؤثر وبشدة في مستوى فاعلية الثورة أمام الشعب وأمام الخارج، فتقف حائلاً دون إنجاز هدفها المحوري، إسقاط النظام.
أن تكون هناك اختلافات وتباين في الآراء بين صفوف المعارضة، لهو أمر صحي وإيجابي يدلل على السير قدماً في عملية ردم مستنقع الصوت الأوحد وسياسة التوريث التي حاول النظام السوري ترسيخها على مدى عقود من الزمن، ويشكل حجر الأساس في بناء دولة مدنية حاضنة لكل أطياف الشعب السوري ونخبه.
لكن، وأمام ما نشهده اليوم من حالة الانقسام الحادة، وما طفا على السطح من خلافات في الرؤى بين التيارات والتشكيلات السياسية المختلفة للمعارضة أمام كل طرح -وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما تلا انتخاب معاذ الخطيب لقيادة الائتلاف السوري وبعده، غسان هيتو لرئاسة الحكومة السورية المؤقتة وغيرها- إنما يضع المعارضة السورية أمام الشعب في خانة انعدام الثقة في قدرتها على قيادة سورية المستقبل، كما يبقي على حالة التشكيك لدى الغرب المتردد في كونها تشكل البديل المناسب لنظام الأسد.
مثال آخر على ذلك، حالة التخبط والتلكؤ بين قوى المعارضة بشقيها المدني والعسكري في الأمور الشكلية الصرفة، انطلاقاً من تسمية الكتائب والتشكيلات العسكرية للجيش الحر، وانتهاء باختيار أسماء الجُمع.
هوّة سحيقة تلك التي تقسم المشهد العام في سوريا اليوم، شعب ضحى ولا يزال بالغالي والنفيس، ومعارضة يحكمها التعنت والتصلّب بالآراء ناهيك عن الحسابات والأهواء الشخصية.
وبالعودة إلى القصة التي بدأ بها هذا المقال، فإن الشعب السوري هو تلك الامرأة المتخمة بالتعب المحتاجة لمن يضع القيم المترهّلة وراء ظهره، وأن يحرق خيم اللجوء قبل أن تتحول إلى أطنان من الإسمنت والرمل والحديد..والآمال الضائعة..!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية