مرفوض تقزيم سلاح المقاومة وعلى الأمة أن تحميه
من واجب الأمة أن تلتف حول المقاومة لنحميها من أعداء الداخل وأعداء والخارج
منذ القدم اختلف الناس حول القيم و المفاهيم الكبرى، وخاصة تلك التي تؤثر في حياتهم تأثيراً جوهرياً. فقد اختلف الناس ابتداء حول ''إلههم''، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومنهم من أشرك، ثم اختلفوا حول الأنبياء، فمنهم من صدّق . ومنهم من كذّب، ومنهم من نافق، وهكذا ظلت القيم والمفاهيم المطلقة سواء ما كان سماوياً منها أو وضعياً محل خلاف بشري، وظل حملة هذه القيم محلاً لهذا الخلاف أيضاً.
من هذه الزاوية، زاوية اختلاف المواقف باختلاف القيم والمفاهيم، نقرأ اليوم في سيرة ومسيرة القائد الشهيد المظلوم الحاج عماد مغنية عليه رحمة الله.
وعندما نقول الشهيد المظلوم فإننا نشير إلى الظلم الذي لحق بالشهيد من أمته التي أفنى حياته دفاعاً عنها، وصداً لعدوها، وسعياً لتحرير أرضها، وبدلاً من أن تقف الأمة إلى جانبه وتحميه وتسانده انضم فريق من المحسوبين عليها إلى أعدائها في مطاردته، وانضم فريق آخر إلى هؤلاء الأعداء في تشويه صورته حياً على الأرض، وحياً في السماء، لأننا نؤمن بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وإن كانت الأغلبية الصامتة من أبناء الأمة قد أنصفت الشهيد عند لحظة استشهاده فبكته بكاءً مراً وأقامت له مجالس الذكر في كل ربوعها سراً و علناً.
لقد نسي هؤلاء الذين ظلموا الشهيد عماد مغنية حياً على الأرض وحياً في السماء، أنه ابن ثقافة أمته وهي في جوهرها ثقافة مقاومة للذلة، رافضة للظلم، لذلك فقد نذر حياته لمقارعة عدو الأمة، يوم كانت الأمة موحدة الهدف والشعور ويوم لم تنحرف بوصلتها عن تحديد عدوها الأول المحتل لأرضها في فلسطين، وهي الأرض التي ظل تحريرها هدفاً للشهيد الحاج عماد حتى الرمق الأخير من حياته الدنيوية، وظلت القدس قبلته التي يسعى إلى تحريرها سواء من خلال جهاده العملي والمباشر في المقارعة المستمرة لمحتلها، أو من خلال دعمه لكل المقاتلين في سبيلها، بكل ما تحتاجه معركتهم مع الصهاينة من دعم مادي ومعنوي وتوحيدً لصفوفهم، ولا غرابة في ذلك، فالرجل ابن مدرسة تؤمن بوحدة الأمة، وبوحدة عدوها وبوحدة معركتها، ولو كان غير ذلك لوضع السلاح مبكراً، فقد أنجز فعلياً تحرير جل أراضي وطنه الصغير لبنان، وحرر معظم الأسرى من أبناء وطنه الصغير لبنان أيضاً، لكن الحاج عماد لم ينهد للجهاد من أجل معركة جزئية هدفها دحر العدو عن مئات الكيلومترات التي احتلها هذا العدو، بل شهر سيفه لاجتثاث هذا العدو من كل أرض الأمة، فكانت معركته مع العدو على امتداد أرض الأمة، بل وحيثما تمكن من ضرب هذا العدو على امتداد أرض هذا العالم الظالم، الذي أمد عدونا بكل عوامل البقاء وآلات العدوان، وناصره علينا، ليجعل من باطله حقا.
وحدة معركة الأمة هي القناعة التي آمن بها الشهيد الحاج عماد مغنية وكل إخوانه ممن حملوا السلاح معه ومن خلفه كل المؤمنين بمستقبل هذه الأمة، لذلك رفضوا تقزيم سلاح هؤلاء المجاهدين وجعله قضية محلية خاضعة للنقاش بين فرقاء سياسيين في هذا البلد أو ذاك. فسلاح المقاومة هو ملك الأمة كلها وعلى الأمة أن تؤمن له الحماية والاحتضان الكاملين حتى تحرير كامل ترابها من عدوها الذي احتل فلسطين لينطلق منها لتهديد وجود الأمة كلها، فهذا العدو وحتى يثبت احتلاله لفلسطين مد عدوانه إلى مصر وسوريا ولبنان والأردن، ووصلت جرائمه إلى حيث استطاع في العراق وتونس وطارد قتلته المجاهدين من أبناء الأمة في العالم كله، ولا نحسب أن قطراً من أقطار الأمة سيكون بمنجأة من مكائد هذا العدو ما دام له قدم في فلسطين، فهذه طبيعته التي يدل عليها تاريخه، وتدل عليها ممارساته. ولا لغة يفهمها هذا العدو، إلا لغة القوة التي أتقنها الشهيد الحاج عماد مغنية. ولا طريق لوقف عدوانه إلا طريق المقاومة الذي سار عليه الشهيد الحاج عماد مغنية وإخوانه من المقاومين، الذين يشكلون طليعة الأمة، ورأس رمحها الذي يجب أن تلتف حوله كل الأمة لتحميه من أعداء الداخل والخارج. حتى يتم تحقيق أهداف الأمة التي قضى في سبيلها الشهيد الحاج عماد مغنية الذي كانت لحظة استشهاده هي لحظة ولادته الحقيقية وفق المنطوق القرآني الذي يؤكد أن الشهداء لا يموتون، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، كما أن المنطق الدنيوي يؤكد أيضاً أن لحظة استشهاد الحاج عماد مغنية كانت لحظة ولادته الدنيوية الحقيقية، فقد صار ذكر الرجل على كل لسان وبكل لغة، واستوطن قلوب الملايين، وحفر اسمه في صفحة مشرقة من صفحات تاريخ هذه الأمة، بل وتاريخ حركة التحرر الإنساني كلها، وهذه مكرمة من مكارم الخالق على من يرضى من عباده المؤمنين الذين يتصدقون في سبيله سراً فيُسخر الله مايعلي ذكرهم في العالمين، ولا أحد يجادل في إن كل حياة وجهاد الشهيد الحاج عماد مغنية كانت ''صدقة سر'' مثلت أعلى وأنقى حالات التجرد التي لا يمكن أن يصل إليها إلا المؤمنون من عباد الله، وصدقه السر في عقيدتنا علامة من علامات الوصول إلى درجة الإحسان، وهي أعلى درجات العبودية لله بعد الإسلام والإيمان، وهي الدرجة التي لا يصل إليها إلا العارفون، كما يقول أهل التصوف الصحيح، ونظن أن الشهيد الحاج عماد مغنية كان متصوفاً في محراب الجهاد، ذلك أنه لم يقبل بالركون إلى الحياة الهانئة مستنداً إلى تبريرات العجزة الذين يعلقون عجزهم على مشجب الآخرين، ويتذرعون باختلال موازين القوة مع العدو، بل لقد استطاع الرجل بجهده وجهاده أن يكسر قاعدة توازن القوة ولم ينتظر تحقيق هذا التوازن حتى يقاتل العدو كما يتعلل الكثيرون من المتقاعسين والمُخذلين، فبدلاً من ذلك قلب الشهيد وإخوانه في المقاومة المعادلة، وبإرادتهم وبأخذهم بالأسباب خلقوا حالة توازن الرعب مع العدو التي كانت لحظة استشهاد الحاج عماد مغنية واحدة من أهم تجلياتها، ذلك أن هذا العدو الذي طالما تباهى بقوته وبقدرته على الردع، وبعدم قدرة أحد على النيل منه ارتعدت فرائصه خوفاً عند لحظة إعلان استشهاد الحاج عماد مغنية، وأعلن حالة النفير القصوى، ليس في داخل كيانه المصطنع، ولكن وحيثما تواجد له بشر أو حجر، بل لقد حرم هذا العدو على شواذه التكلم بلغتهم، والتجمع في الأماكن التي اعتادوا على التواجد فيها على امتداد العالم، فأي دليل أكبر من هذا نريده للتدليل على قدرة المقاومة الإسلامية على قذف الرعب في قلوب عدونا، بعد أن تمكنت هذه المقاومة وبفعل جهاد الشهيد وكل إخوانه من ترجمة الأمر الإلهي ''وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم''، إلى واقع نعيشه، فهنا نحن نلمس الرعب يدب في قلوب العدو، وقلوب من يقفون خلفه سراً أو علانية، بعد أن لمسنا كيف أعدت المقاومة الإسلامية كل ما استطاعت، ثم اتكلت على ربها الذي لم يخذلها قط، وتحققت على أيديها انتصارات حاسمة للأمة كل الأمة، ولعل في طليعة ما أعدته المقاومة الإسلامية في لبنان المناقبية العالية لمقاتليها الذين استطاعوا من خلال هذه المناقبية بناء مجتمع رسالي تتجلى فيه معاني قوله تعالى ''أشداء على الكفار رحماء بينهم''، فشكل هذا المجتمع الرسالة حاضنة للمقاومة، وهو نموذج نتمنى أن يعم ليشمل أرض الأمة كلها.
إن سيرة ومسيرة الحاج الشهيد عماد مغنية تدل على أن الرجل فهم إسلامه فهما صحيحاً، وخاصة في جانب التكاليف الشرعية، ذلك أن التكليف في الإسلام يقع على الفرد أولاً، حيث لا يقبل منه عذر عن تقصير لم تسبقه محاولة فعل وأداء للواجب، لذلك لم ينتظر عماد وإخوانه حتى يتحقق توازن القوى مع العدو، ولم ينتظروا حتى يتحقق إجماع الأمة على قتال العدو، لكنهم انبروا لأداء واجبهم وتركوا للأمة أن تـتخلص من وهنها وخورها لتلحق بهم في أداء الواجب، أو أن تظل على وهنها وقصورها، وعجزها، فتبوء بغضب الله، وهذا ما نرفضه لأمتنا التي نؤمن بأن دماء الشهداء ستظل تروي جذوة الحياة في أعماقها، حتى تستعيد ذاتها وتغير واقعها بفعل دماء شهدائها وبطولة مقاومتها.
مضى الشهيد الحاج عماد مغنية إلى ربه شهيداً في توقيت بالغ الدقة والحساسية تشتد فيه هجمة الأعداء على الأمة، خاصة بعد زيارة الرئيس الأمريكي ''جورج بوش''، هذه الزيارة التي قدم فيها ''بوش'' كل ألوان الدعم وصوره لراس حربة العدوان الاستكباري على امتنا، فأجاز للإسرائيليين من بين ما أجاز أن تستمر في سياسة الاغتيالات التي لم تتوقف عنها يوماً، لذلك لم يكن غريباً أن تمتد يدها الغادرة إلى الشهيد الحاج عماد مغنية، الذي قتل من أعداء الأمة أكثر مما قتلت منهم جيوش كاملة، وحقق على هؤلاء الأعداء انتصارات حاسمة، لم تستطع أن تحقق مثلها دول بجيوش جرارة، فلم يكن غريباً أن يغدر الأعداء بالشهيد الحاج عماد مغنية، فالغدر شيمتهم، وتاريخهم لا يزيد عن كونه سلسة من المذابح المفتوحة للأفراد والجماعات، لكن الغريب هو هذا التشويه للحقائق الذي شاركت فيه بعض الأقلام التي تكتب بالعربية عندما تناولت واقعة استشهاد الحاج عماد مغنية وسيرته، فبدت وكأنها تكتب بالعبرية بعد أن صارت تفكر بها، فبكى هؤلاء من سقطوا على أيدي المجاهد عماد مغنية في معركة دفاعه عن الأمة، وتناسوا مذابح دير ياسين وقبية والسموع، وقانا وبحر البقر، وكل الجرائم الصهيونية والأمريكية بحق أمتنا التي يمارس العدو ضدها مذبحة مفتوحة في فلسطين والعراق، وحيثما استطاع الوصول، وليس هذا بالأمر المستغرب على تاريخ أمتنا، فقد كان المنافقون من المحسوبين عليها أشد فتكاً بها في بعض مراحل تاريخها من أعدائها، مثلما كانت سير أبطالها مضغة في أفواه هؤلاء المنافقين.
كفى الله أمتنا شر منافقيها وكيد أعدائها ورحم شهداءها وجعل دمهم لعنة على عدوهم ورواء لشجرة الجهاد فيها، ونصر مقاومتها.
بلال حسن التل
حفة اللواء الاردنية
www.al-liwa.com
قراءة مختلفة في سيرة شهيد مختلف.... بلال حسن التل
خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية