عندما عاد المغفور له، أمير الكويت السابق، منتصراً إلى عرش إمارتها السعيدة بعد تحريرها من الغزو العراقي، استقبلت الكويت المحرّر النزيه المناضل بوش الكبير استقبالاً احتفالياً أين منه استقبال الفاتحين، وفاءً له خدمته المجردة في إنقاذ الكويت ونظامها التقدمي الحضاري الديموقرطي.
يومها بكت ابنتي التي كانت في الخامسة عشر من عمرها، عندما شاهدت على الشاشة الصغيرة ألوف الأطفال الكويتيين يحملون الأعلام الأميركانية وصور الفاتح العظيم، ويحتشدون وهم يهتفون "بابا بوش" .. "بابا بوش"! وقد جمعتهم حكومتهم من مدارسهم ومنازلهم للقيام بالواجب القومي تجاه البطل الذي كانت جيوشه قد سبقته للحلول على الرحب والسعة في الكويت الحبيبة.
هؤلاء الأطفال قد كبروا وتعلموا وتخرجوا على الائتلاف مع مشهد الأعلام والصور التي حملوها بالأمس والتي تشكل لهم رموزها اليوم قيمهم ومثلهم وعصب بنيتهم الثقافية والإعلامية والسياسية، وهم لا يزالون يرتعون في ظل جيش التحرير الأميريكاني الظافر وأقدامه الهمجية...
هؤلاء يشكلون اليوم عصب دهماء الكويت وغوغائها. وقد كان من الأولى أن يشكلوا رأياً عاماً حقيقياً لو كان في تركيبة حكمهم أي ملمح لتربية سليمة متوازنة.
فلا نعجب بعد كل ذلك من أن نرى الكويت تهوج وتموج وتقوم قيامتها ولا تقعد وتثور كرامتها الحساسة جداً لأن نائبين اثنين من "مجلس الأمة" الكويتي قد خرجا على منظومة الوفاء والولاء للمحررين العظام، وشاركا في التهنئة باستشهاد القائد عماد مغنية، ولم يحترما حضور جيوش سادة العالم الذين وضعوا ثمناً خيالياً لرأس الشهيد عماد، كما نغصا بتصرفهما فرحة الحلفاء الأوفياء، في فلسطين المحتلة، بغياب البعبع الإرهابي الذي أرعبهم وقضّ مضاجعهم لسنين طويلة، فاستحقا اللوم والتأنيب والتشنيع والمحاكمة والطرد من "مجلس الأمة" الطاهر الذي لوثاه بموقفهما الغريب العجيب المريب. وكأن الألوف غيرهما الذين أقاموا العزاء أصفار منسية، فتوهم أصحاب الهبة أن الكويت ستبقى إلى الأبد مرتعاَ لجيوش الغزو ومزرعة "للأوباش".
هذا هو المشهد السياسي الإعلامي الثقافي في الكويت اليوم، ويقال فيه الكثير الكثير، ولكننا نختصر ونسجل الملاحظات التالية:
أولاً: إن موقف الكويت الراهن هو نتاج طبيعي للمرحلة التي تمر بها أمتنا اليوم، ولا يفجئ أحداً من العقلاء والشرفاء.
ثانياً: إن هذا الموقف يعني الشدّ على يد الاغتصاب في فلسطين وتأييده وتشجيعه ودعمه لمتابعة مثل هذه العمليات الإرهابية العدوانية.
ثالثاً: إن هذا الموقف هو ثمرة تنسيق سياسي إعلامي أمني شامل ومحكم مع الاغتصاب في فلسطين. ولا يمكن اخفاؤه من صورة المشهد العام، وله أشباه وأمثلة متعددة سابقة وحالية لا مجال لذكرها في هذا المقام.
رابعاً: إن هذا الموقف ليس موقف الكويت وحدها، إنه موقف مجمل الحكومات العربية المدموغة بالتطبع والتطبيع مع الاغتصاب، والتي تحوّل بعضها وتتحول بمجملها إلى أشباه للحكم الذاتي في قبضة العدو الأميركاني المتهود، دون أن يعلموا أنهم بمواقفهم وأعمالهم يزيدون في قيمة وعظمة الشهداء، وعلى مقاس لامية المتنبي الشهيرة ...
خامساً: إن هذا الموقف يعلن عن أهدافه الآنية والبعيدة بنفسه، وملخصها أن تكون أشباه الحكم الذاتي أدوات بالغة الطواعية، هينة لينة، مكشوفة منتوفة تحت الحذاء الأميركاني الذي يلوث أرضنا في الكويت والعراق وغيرهما.
أما الأهداف الآنية فمن أقربها في التناغم التام للأشباه (خصوصاً في فلسطين ولبنان ومصر والسعودية والأردن وتونس والمغرب) زيادة الضغط على دمشق وتطويقها وإرباكها لمصلحة المعلمين، وإفشال مؤتمر القمة القادم في عاصمة التاريخ. ومن أوسطها تغطية أي عدوان جديد يقوم به الأعداء ضد لبنان أو غيره، وإخفاء مشهد غزة الدموي والأفشال الأميركانية في العراق وأفغانستان...
يذكرنا هذا المشهد بقول شاعر راحل معرف في أحد الأشباه (وهو غني عن التعريف):
تف على بشرية ألقت لمثلك بالزمام. تفوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووه
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية