عندما اكتشفت أنني طائفي!
كنت في 1978مجنداً في مخيم تل الزعتر، أو بالتحديد على التلة المشرفة على تل الزعتر. كنت قائد الجماعة الأولى في سرية مدفعية هاون ١٦٠ مم. كان النظام السوري في ذلك الوقت قد قلب تحالفه، فبعد أن كان داعماً للمسيحيين أصبح ضدهم. عرفنا ذلك بعد أن استقرت السرية في موقعها، وجاءتنا للتحميل إحداثيات الأهداف المحتملة للقصف. اكتشفت مدهوشاً أن الأهداف تشمل مناطق المسيحيين الانعزاليين، الذي دخل النظام لحمايتهم، ومناطق القوى الوطنية، كما كانت تعرف في ذلك الزمن. قلت في نفسي لا بد أن هناك خطأ ما قد حصل أثناء إرسال إحداثيات المواقع إلى السرايا، فتوجهت إلى نائب قائد السرية للاستفسار عن الأمر وتصحيح الخطأ، بحكم مسؤوليتي كقائد للجماعة الأولى، وبحكم مسؤوليتي الوطنية، فقبل ثمانية أشهر فقط كنت ما أزال سجيناً سياسياً وضد تدخل الجيش السوري في لبنان. وصلت إلى براكة الضابط وقدمت التحية أصولاً بانتظار أن يسمح لي بالكلام، وبعد أن أنهى شرب كاسة المتة قال ساخراً:
نعم، شو بتريد حضرة الرقيب أول المثقف؟
قلت له: سيدي، الإحداثيات التي أعطيتني إياها للتحميل على المدفع تشمل مواقع في بيروت الشرقية وأخرى في بيروت الغربية، يعني عند الأصدقاء والأعداء، ربما هناك خطأ غير مقصود في ذلك.
قال مقهقهاً: روح يا كر حمّل الأهداف كلها، أخطاء قال أخطاء، وعاملي حالو مثقف.
غادرت البراكة مقهوراً لسخريته مني. عندما انتهينا من عملنا وعمل الجماعات الأخرى، أخبرت الملازم المجند بذلك كي يتفقد ما أنجزناه. قال لي بعد أن أنهى عمله، مبرراً سلوك نائب قائد السرية تجاهي: يجب أن تعرف أن النظام ينظر إلى الجميع كأعداء، ويتعامل معهم على هذا الأساس، ولولا ذلك لما استطاع الانتصار على الجميع.
لم أكن بحاجة لشرح الملازم المجند لأعرف طبيعة النظام، فقد اكتشفت ذلك قبل السجن وفي السجن، وعرفت أن النظام يرى في الشعب السوري عدوه الأول، ويتعامل معه على هذا الأساس، فليس من المستغرب، بعد ذلك، أن يتعامل مع اللبنانيين جميعاً، بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم، على أساس أنهم أعداء أولاً ثم عملاء ثانياً ثم خدم ثالثاً.
بعد أن استقرّ بنا المقام، بدأت دائرة حركتنا تتسع شيئاً فشيئاً، ووصل بي التجوال في حي سن الفيل إلى مخزن صغير يبيع الصحف والمجلات والدخان وبعض الكماليات وتيشيرت ومحارم، وغير ذلك. كانت صاحبته، أو التي تديره، صبية لطيفة متوسطة الجمال، دائمة الابتسامة. كنت في كل زيارة للمحل أبحث عن جرائد النهار والسفير، وخاصة الأعداد التي كانت تحتوي على ملاحق ثقافية. كنت أمنّى النفس بعد عدة زيارات أن أكسب ود الصبية، وكانت هي، وكأنها قرأت أفكاري، تزداد لطفاً واهتماماً بي عند زيارة المحزن بعد أن عرفت أنني مسيحي عازب وأنني مجند، وأنني خريج جامعي. وكنت قد نصحتها، بعد أن شكت من غلاء الأسعار، أن تذهب إلى حمص لشراء ما يلزمها من قطنيات جيدة بأسعار رخيصة، وأنني يمكن أن أساعدها في هذا المجال.
بعد عدة أسابيع، بدأت أعتقد أن صبية المخزن بدأت تثق بي وتميل إليّ، وأخذت تحدثني عن بعض ممارسات الجيش السوري في حي سن الفيل، وأعدت الأمر بين وبين نفسي، إلى نوع من الاطمئنان الطائفي من جهة وإلى شخصيتي الساحرة من جهة أخرى. في إحدى الزيارت، وكنت وحيداً، حدثتني عن لحظة اجتياح القوات الخاصة السورية لسن الفيل، وعن تفتيشهم للبيوت والاغتصابات التي رافقت ذلك التفتيش والقتل الجماعي للشباب، وخاصة كل من كان معه سلاح، وكيف تم تقاسم البيوت التي هجرها أصحابها، بين الجنود، فكنت عندما تجد اسماً لعسكري سوري على أحد الأبواب، يعني أنه قد حجزه بانتظار وصول سيارة الزيل لتفريغه من محتوياته.
انقضت أسابيع، اختلطت فيها مشاعري تجاه صبية سن الفيل، ولم أعد قادراً على تمييز أسباب إعجابي بها، هل اختلط الدافع الديني بالدافع الجنسي بدافع الشفقة لما أصابهم من ممارسات سيئة من الجيش السوري، واختلط كل ذلك بدوافع حقدي على النظام الذي سجنني وسرحني من عملي قبل أن يجبرني على تأدية الخدمة الإلزامية، كان ذلك كله حاضراً في ذهني، إلى أن حدث ذات يوم ما أعاد الأمور إلى نصابها في عقلي.
أحد أيام بعد الظهر جاء حاجب نائب قائد السرية يقول لي إن هناك من يريد أن يراني في براكة القائد، وإن هذا الأخير يبدو مرتبكاً. ذهبت مسرعاً، بعد أن تأكدت من هندامي العسكري، دخلت وقدمت التحية، فغادر على الأثر ضابط السرية البراكة لأبقى وحيداً مع الضيف المدني. قال الضيف مبتسماً: انا النقيب (ص) من المخابرات العسكرية، وأريد أن أناقشك في بعض الآراء. وبدأ فعلاً في سؤالي عن بعض الروايات والأعمال الأدبية الاشتراكية وتقييمي لها، فقلت ما أعتقده رأياً حقيقياً لي أكان سلبياً أو إيجابياً. ثم سألني عن طبيعة تصوري للصراع في لبنان، فقلت له إنني أعتقد أن ما يجري في لبنان ليست حرباً طائفية وإنما حرب مصالح لبست لبوساً دينياً. وإن كل طرف حاول استخدام الدين لمصالحه ومن أجل زج أكبر عدد ممكن من الناس في أتون هذه الحرب. قال النقيب بعد أن انتهينا: كنت متأكداً أن شاباً مثقفاً مثلك لا يمكن أن يكون طائفياً، وأن يبني مواقفه الوطنية بناء على انتمائه الديني. قلت له إذا ممكن أعرف الطرف الذي يتهمني بذلك؟ قال: وصلنا تقرير من عميلة لنا تقول فيه إنك تتردد على محلها، وإِنك تبدي تعاطفك مع موقف المسيحيين اللبنانيين.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية