أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

اكتُبْ... ومُتْ ... د.محمد جمال طحان


عندما كتبت عن إهمال الآباء تلقيت توبيخاً شديد اللهجة من والدي بسبب ما عدّه جحوداً أقابله به بعد السنوات الطويلة التي جاهد فيها من أجل إسعاد أبنائه.‏
بعد أعوام كتبت قصيدة تحمل عنوان (ثقيل على قلب أمي) مما جعل والدتي ترفض هدية عيد الأم، التي قدمتها لها، بحجة أنني لا أستحق الحب الكبير الذي تحيطني به، فكيف تخصني برعاية زائدة عن أخوتي ثم أشعر بأنني ثقيل على قلبها؟!.‏
وفي إحدى أمسياتي القصصية قررت زوجتي الحضور مما أدخل السرور إلى قلبي، ولكنّ فرحتي سرعان ما تبخرت عقب الأمسية إذ أن زوجتي قاطعتني لأنني قلت في سياق القصة أن حماتي لا تفتأ تقارنني بأزواج بناتها الأغبياء، وأن عمي ـ زوجها ـ يرصد كل حركاتي بدقة ليغتنم كل فرصة سانحة لتأنيبي. المهم أن مقاطعة زوجتي لي دامت أسبوعين وكلفتني مصالحتها هدية معتبرة لتقتنع ـ جزئياً ـ أن ما أكتبه ليس بالضرورة ما حصل معي فعلاً، وإنما مهمة الكاتب أن يكون مبدعاً لدرجة إقناع القارئ بأنه يتحدث عن خبرات مرت به شخصياً.‏
وفي إحدى المرات كتبت قصة تحمل عنوان (تصريحات مجنون) تخيلت فيها أنني زرت مشفى الأمراض العقلية ورصدت حواراً افتراضياً مع بعض نزلاء المشفى، وفور نشر القصة اتصل بي مدير الدائرة التي أعمل فيها ووجه إليّ تأنيباً شديد اللهجة بحجة أنني أتعدى على حرمات دوائر أخرى خارج نطاق عملي، ونبهني إلى أن تحقيقات من هذا النوع لابدّ أن تجري بعلمه وبعد استئذان كل الجهات المعنية بالمشفى ومديرية الصحة والقطاعات المرتبطة بها.‏ قد لا تصدّقون أنني كنت مسروراً بذلك التأنيب الجاد، لأنه يدلّ على مدى الأثر الذي أحدثته القصة التي نسجتها من بنات أفكاري.‏ وكثير ممن حولي يعرفون قصة الكسوف التي ألقيتها في يوم الكسوف منذ أعوام وافترضت فيها أن آثار قلعة حلب قد نقلت بالطائرات إلى جهة مجهولة.. وأذكر آثار تلك القصة التي دامت شهوراً حيث انشغلت مديرية الآثار بها، واندفع الأدلاء السياحيون لمعاينة مكان الجريمة حرصاً على مصادر رزقهم.‏
وكذلك قصة (تصريح علني) التي ألقيتها في إحدى المدن حيث خاطبت فيها أحد الصحفيين موهماً الحضور بأن لدى الصحفي دعوى قضائية عالقة عند القاضي (فلان) وصححت له معلوماته بأن القاضي لا يتلقى رشاوى من أحد وكل ما يريده هو مجرد تذكرتَّي طائرة إلى السعودية لأنه يحنّ إلى الديار المقدسة ويريد أن يعتمر..‏
ألقيت ذلك التصحيح كمدخل للأمسية، ولم يَدُر في خلدي أن ذلك المدخل سيشغل دوائر الأمن ستة أشهر بعد الأمسية، إذ تصادف وجود قاض يحمل الاسم نفسه، ولم ينجُ صاحبي الصحفي من ذيول تلك الأمسية إلاّ بشقّ الأنفس حتى اقتنع المسؤولون أن ما قيل لم يكن سوى من الخيال وأنه لم يُقِم في حياته دعوى على أحد ولا يعرف قاضياً بهذا الاسم أو باسم آخر..‏ وكتبت مرة تحت عنوان (برج المدراء) أن برج المدراء لا يناسبني وبينت أسباب نفوري من ذلك البرج، ثم ختمت بأنني قدمت استقالتي إلى مديرية التربية بعد أن صار أحد أصدقائي الأدباء مديراً لها، وأنني أستقيل كي لا أضطر إلى مصادمته.‏
بعد نشر المقال تلقيت عدداً كبيراً من الهواتف، وتعرضت إلى تأنيب شخصي من بعض معارفي لأنني سأستقيل من مديرية التربية بعد أن أصبح مديرها أحد أصدقائي الأدباء وهو رجل معروف بنزاهته، فلماذا أستقيل؟! وكنت مضطراً في كل مرة إلى الإسهاب في الشرح أن ما كتبته لا علاقة له بالواقع الفعلي الذي يحدث معي، وأنني لم أكن في يوم من الأيام موظفاً في التربية، وإنما أعمل في قطاع آخر مختلف كل الاختلاف.‏
بعد كل تلك المشكلات كتبت مقالة بعنوان (لا أضمر العداء لأحد) وقررت أن أتجنب الكتابة التي يمكن تأويلها خشية أن يزعج ذلك أحد أقربائي ومعارفي ومدرائي، وقلت في نفسي إن صطوف العاطل عن العمل والذي يحمل شهادة (البروفيه) لابد أن يكون مادة كتابية مثالية لأنه يحاول التشبّه بالكتَّاب، وقد باع إسوارة زوجته ليطبع مجموعة قصصية لم تلق قبولاً من أحد الناشرين، والأهم من ذلك أنه لا يقرأ ما يُنشر مما يجنّبني المشاكل مع الآخرين.‏ وبالفعل كتبت المقال ونشرته باطمئنان ولم أتكهّن، ولو للحظة واحدة، بالتأويلات التي قد يرصدها الآخرون ليستنبطوا ما يمكن أن يُفسَّر نقداً موجهاً لتصرفاتهم.‏ في مكان عملي جاء أحد المقربين من المدير وأبدى إعجابه بالمقال: ما هذا المقال الرائع الذي كتبته؟...‏ شكرته على تذوّقه أو مجاملته. ولكنه أردف: على كل حال وصلت الرسالة.‏
قلت: أي رسالة، ماذا تعني؟‏
قال: أعني أن مقالك واضح وفهمنا ما الذي ترمي إليه.‏
قلت له: أرأيت.. ذلك المتنطّع الذي يتشبّه بابن سينا مردداً (لو أنني كلفت بشراء بصلة لما أنتجت حرفاً) ولكنه.. على كل حال اعتزل الكتابة الآن وهو يدفع عربة ملأى بالبصل.‏
لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد.‏ في المساء طلب أحد أصدقائي أن نعقد جلسة خاصة فرحبت بالفكرة لأنه رجل ذو بعد نظر رائع وخيال مبدع يبسط أمامي ـ كل حين ـ موضوعاً طريفاً للحوار.‏ قرّب كرسيه مني وبدأ بالكلام: إن مقالك (الخيبة ليست مباغتة) أجرى ضجة كبيرة حولك وهو يثير لغطاً كثيراً..‏ طريقتك في الالتفاف حول الموضوع، وازدواجية المعاني التي تبسطها من خلال كلماتك المنتقاة توحي بأشياء كثيرة ـ على الطريقة الشكسبيرية ـ ولكنها في النهاية، تصل إلى المطلوب.‏
قلت له: ما قصة تلك المقالة، كما تعلم هناك حظوظ للنساء، ويبدو أن هناك حظوظاً للمقالات أيضاً فقد نسوّد مقالات كثيرة مهمة لا تلقى الرواج، ثم تأتي مقالة لم تكن في الحسبان تمنح صاحبها شهرة واسعة.‏ اليوم أكثر من خمسة أشخاص أبدوا إعجابهم بالمقال، فما هي القصة؟.‏
قال: النقابة.. والاتحاد.. والجمعية العلمية.. والمدير.. كلهم مستاؤون منك لأنك تغمز في مقالك على أوضاعهم وتهزأ بهم. وراح يسهب في حديثه مبيناً تفاصيل جملي التي حفظها حيث أقول: "مديري كان وما يزال ـ دائماً ـ سيّء الإدارة لأنه ليس أنا. والمسؤول عن الصفحة الثقافية في صحيفة (غواتيمالا) جاهل، لأنه لا ينشر مقالاتي التي أرشها في وجهه كالرز في الصين...."‏ تركت الرجل يسهب في التفسيرات التي نقلت إليه عن مقالي وكيف يرون أنها مقالة تعادي جميع من حولي وتسخر منهم.‏ كنت أستمع إليه وأنا أبتسم.. بعد أن انتهى تماماً وأفرغ جعبته التي امتلأت من جهات متعددة وجاء ينقلها إليّ بحذافيرها حرصاً عليّ، فقد بنيت حولي أهرامات من العداوات ولم أعد بحاجة إلى مزيد من الأعداء.‏ بعد أن صمت منتظراً ردّة فعلي، قلت له: ألم تقرأ في مقالي صورته الحقيقية حيث أتحدث عن رجل فاشل يندهش من ازورار الناشرين عنه رغم ظنَّه أنه كاتب مبدع... والذين ظنوا أن ما أكتبه معادياً لهم ألم يقرؤوا إنه إنسان بلا شهادات بل يهزأ من أصحابها ظاناً انه يتعلم من الحياة وهو ولا حاجة به إلى الكتاب؟!..‏ ألم يلاحظوا تصريحه بأنه يعمل يوماً ويتبطل شهراً ظانّاً أنه خُلق للإدارة والأمر والنهي..‏ ألم يقرؤوا تصريحه بأنه سيفوز بجائزة نوبل ليصبح محط أنظار الآخرين..‏ ألم يكن واضحاً في المقال تصريحه بأنه صار يخرّف من طول البطالة وكثرة التعجرف.. وأنه حاز على المرتبة الأولى في الخيبة؟!...
تركت صاحبي مذهولاً من تفسيري لمقولات واضحة فيما كتبت ولم ينتبه إليها الآخرون، مددت يدي إلى المكتبة.. أخرجت صحيفة قديمة يعود تاريخها إلى عشرة أعوام مضت..‏ بسطتها أمامه فبدأ يقرأ العنوان (الخيبة ليست مباغتة) نظر إلي مبتسماً حين سألته: كل الذين تكلمت عليهم وأبدوا انزعاجهم من مقالتي التي تهاجمهم مباشرة: أين كانوا حين نشرت المقالة لأول مرة...‏ كل رؤساء النقابات والاتحادات... وحتى مديري.. كلهم لم يكونوا في مواقعهم حين كتبت المقال فكيف يكون مقالي موجهاً ضدّهم مباشرة ولم أكن أعلم، ولم يكونوا يعلمون، ما الذي ستصير إليه الأمور بعد عشرة أعوام.‏
ومنذ ذلك اليوم قررت أن أعتزل الكتابة مع سبق الإصرار خشية أن يفسَّر ما أكتبه تفسيراً عدائياً تجاه الآخرين، ولكنني أريد أن أهمس في آذانكم.. لا تصدقوني، لأن كل ما أقوله الآن عن الاعتزال هو زفرة قلم، كما أنني وأنا أكتب لم أفكر ـ في يوم من الأيام ـ بردّات فعل الآخرين، لأنني أكتب ما تمليه عليّ موهبتي غير عابئ إلا بما قاله الطاهر جعوط: ستموت إن كتبت، وتموت إن لم تكتب، فاكتب ومت.‏ -


(105)    هل أعجبتك المقالة (113)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي