دأبت غالبية أطراف المعارضة على التغني بمزايا الديمقراطية التوافقية، معتبرين أن لا خلاص ولا حلول للحالة القائمة من دونها، كونها أولاً واردة في الدستور، وكونها ثانياً تشكل حسب رأيهم، المدخل الأساسي لتحقيق التوازن العادل بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني . يرافق عادة هذا الخطاب المنطقي الشكل، خطاب آخر من النوع الوجداني الطوباوي، يركز على التوافق والمحبة والسعي لجمع القلوب والالفة، من نوع:"نحن نريد فقط المشاركة،ولا نسعى سوى للتوافق".وهو نهج لا يخلو من الدهاء والديماغوجية المتعمدة ،والهادفة لدفع المواطنين للتساؤل حول أسباب تعنت الحكومة ،وحول نزعتها للاستفراد بمقاليد السلطة.
أما الحقائق المغيبة عمداً في هذا الخطاب فهي من نوعين أولهما دستوري وثانيهما ميداني يرتبط بسير الاحداث على أرض الواقع. فمنذ بدء موال اتهام الحكومة بأنها "فاقدة للشرعية"مروراً بمطالبتها بالاستقالة، وصولاً إلى المطالبة "بالثلث المعطل"، والطروحات تكر، والحجج الواهية تتزاحم على السنة الناطقين باسم المعارضة، هادئة الشكل ،ولكن مفعمة بالتهديد والوعيد بانتزاع هذه المطالب بالقوة .
ولسان حالهم يقول إما أن ترضخوا لشروطنا وتتفقوا معنا على ما يناسبنا، ويحسن تموضعنا على الساحة السياسية، فنكون أعز الأحباب والأصحاب ،أو سوف ننتزع مطالبنا بالقوة . فأية ديمقراطية توافقية هذه؟
في الحقيقة هذا الخطاب لا يتعدى كونه ترويج لديمقراطية توافقية المظهر ولكن استبدادية المضمون والمرمى.
ولكن الذي يجب التوقف عنده ليس الظاهر من جبل الجليد، بل يجب التطلع إلى الخفي منه، إلى الدوافع والاسباب المبيتة لهذه الحملة المطلبية الشكل، ولكن المبرمجة لتغطية أهداف تختلف تماماً عما هو معلن على الملا. والحقيقة أن هذه المعارضة لا تسعى، لا لشغل مراكز وزارية، ولا للمشاركة في الحكم، ولا تعارض من أجل تصحيح خلل تمثيلي ما على مستوى السلطة، بل هي في الواقع موكلة من قبل جهات إقليمية معروفة بأمر مهمة ليس لها حيالها، لا حول ولا قوة. أمر مهمة ليس أقله تعطيل قيام الدولة الفاعلة والقادرة ،عن طريق العمل على إفشال كل المبادرات العربية والدولية،وصولاً إلى افتعال الفتن والأحداث الأمنية، حتي يتحقق الفراغ الدستوري والأمني، المطلوب كذريعة لعودة الوصاية السورية إلى داخل يعجز عن حكم ذاته.
أما من الناحية الدستورية قد لا يكون خافياً على أقطاب المعارضة وقيادييها العالمين بالأمور وخفايا الامور، بأن مطالبتهم بالانصهار بالحكم القائم بحجة "المشاركة"هي هرطقة دستورية، كون هكذا وضع سوف يجمع كل القوى السياسية الفاعلة في مركز قرار واحد، يصدر عنها رأي واحد وموقف واحد، وهي مغالطة دستورية يعملون على إخفائها جيداً عن مناصريهم. فاللبناني وبغض النظر عن ميله الحزبي، أو انتمائه الطائفي،تراه يتمسك بحقوقه الدستورية، ويرفض الخضوع لنظام سياسي يحاكي الانظمة الشمولية المجاورة. لأنه عندما تذوب المعارضة في السلطة القائمة، وبالرغم من كون هكذا وضعية تساعد على انتاج وتنفيذ القرارات على مستوى السلطة، سوف يحرم المواطن من أولى حقوقه الدستورية الطبيعية في المراقبة والمحاسبة عبر الصوت المعارض. ولكن على ما يبدو المعارضة اليوم ليست بصدد القلق أو الانشغال كثيراً بحقوق المواطن ،بل جل ما يهمها هو تنفيذ ما أوكلت به من مهمات، لذا تراها تغطي انحرافها عن مبادىء وأسس الديمقراطية الصحيحة، فلا تنتظر الموعد الدستورى لمحاسبة السلطة القائمة عبر صندوق الاقتراع ،بل تبادر إلى التلطي وراء ادعاء غوغائي مفاده أن"الديمقراطية التوافقية" المنصوص عنها في المدة 95 من الدستور اللبناني تخولها المطالبة بالمشاركة في الحكم، الآن، الآن، وليس غداً.
وإذا نظرنا إلى ما تنص عليه هذه المادة من الدستور نقرأ ما يلي:"على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين أن يتخذ الاجراءآت الملائمة لتحقيق الغاء الطائفية السياسية.
وفي هذه المرحلة الانتقالية،تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة". والجدير بالذكر أنه لا ذكر في نص المادة لعبارة" ديمقراطية توافقية"،بل هي عبارة دخيلة على الخطاب السياسي بشكل عام ، اختراع بدعة يعتبر أنه ترجمة لعبارة "تمثيل الطوائف بصورة عادلة". هذا مع العلم أن التمثيل الصحيح للطوائف في السلطة كان حاصل قبل استقالة وزراء أمل وحزب الله الطوعي من الحكومة.
وعند قيام المطالبة باستقالة الحكومة بعد استقالة وزراء الشيعة،أي منذ سنة ونيف،لم تستعمل الديمقراطية التوافقية سوى كغطاء أو قميص عثمان، للفلفة مطامع ابتلاع مراكز القرار من قبل النظام السوري على يد ممثليه والضاربين بسيفه على الساحة اللبنانية. وبدل أن تعمل "الديمقراطية التوافقية"مثلما يدل اسمها على لملمة الشقاق والتنافر بين مختلف شرائح المجتمع، نراها وقد تحولت إلى أداة من عدة الشغل، المساهمة في عملية التمترس الطائفي المطلوب على الساحة اللبنانية، وذلك بسبب تحفيزها الدائم للتنازع على شغل المراكز والوظائف بين مختلف الطوائف والملل.
وللاضاءة على منطق المروجين لهذه الديمقراطية البدعة، لا بد من إعادة قراءة البند الثاني الوارد في ورقة التفاهم المبرمة بين التيار الوطني الحر و"حزب الله" حيث جاء ما يلي: "إن الديمقراطية التوافقية تبقى الركيزة الاساسية للنظام اللبناني.
وهي تشكل تجسيداً فعلياً لروح الدستور. وتشكل جوهر الميثاق الوطني القائم على مبداء التعايش. وتبقى كل مقاربة الأمور التي تخص المجتمع ككل على اساس قاعدة الاكثرية، رهناً بتأمين قيام الشروط المطلوبة لذلك، ولقيام بالتالي النظام الديمقراطي الصحيح حيث يتمتع المواطن بكل أبعاد ومعاني المواطنية الحقة.
يفهم من هذا البند أن "حزب الله" بامكانه أن يتخلى عن قاعدة الأكثرية العددية، والتي كانت وما زالت تعمل لمصلحته في الانتخابات النيابية، من اجل تطمين قاعدة العماد عون المسيحية واراحتها واجتذابها ، وهي التي كانت تتوجس قبل ابرام هذا الاتفاق من تنامي طغيان عنصر العدد عند "حزب الله".
ولكن مقابل ذلك يطلب الحزب الثمن الباهظ، أي وضع مسألة المواطنية في الثلاجة إلى أن تتغير الاوضاع، وتصبح الشروط الملائمة لقيام الديمقراطية الصحيحة مؤمنة. وبما ان المرحلي هو دائما ما يدوم في لبنان وحزب الله مدرك جيداً لمدى استحكام هذه المعادلة في الحياة السياسية اللبنانية، قد يكون تحول المواطن من مجرد عدد تابع لطائفة أو مذهب او مجموعة، إلى كيان فردي له حقوق وواجبات، وقائم بحد ذاته بعيدا عن انتمائه الطائفي مؤجل إلى أجل غير مسمى. ومسألة اللامواطنية هذه يراهن عليها حزب الله، كونها تخدم مشاريعه الغير معلنة، والهادفة لقيام كيان ايديولوجي طائفي يحاكي النظام الشمولي القائم في إيران.
في الحقيقة لبنان لن يرتاح ويخلص سوى في العودة إلى اعتناق وتطبيق قواعد الديمقراطية الحق،التي ُتحّرم تقدم وغلو أي شعار على قيمة المواطن الفرد، وتدين تكبيل عجلة الحياة السياسية بانتظار توافق متعذر الولادة بين أطراف متنازعة ودائمة التنافر. فالسلطة هي في النهاية قرار .والقرار يجب أن يعود إلى إرادة الأكثرية الشعبية المتمثلة بالأكثرية البرلمانية.وكل كلام خارج عن هذا الإطار هو هراء وتدجيل.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية