ترتبط فكرة المواطنة بالعصر الثوري للأفكار الجمهورية والتي كانت تعبر فيه عن التزام سياسي أكثر من كونها مجرد فكرة تخدم جهاز سلطة وبالتالي فإنها لم تظهر بشكل جوهري كقيمة في الفضاء العمومي الا مؤخرا أي عندما بدأت تلوح في الأفق السياسي بوادر أزمة في العلاقة بين الحكام والمحكومين وفي شروط انتماء الأفراد الى المجموعات.
في الماضي كانت هناك لامواطنة ومسكنة ومذلة وكان الحكام ذوي النفوذ الفردي يعاملون الناس كرعايا ودهماء ورعاع وعامة يقادون بالحديد والنار ويسيرونهم على هواهم ولتحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم الخاصة وكان هؤلاء الرعايا ويضحون بالغالي والنفيس ويفعلون كل شيء من أجل إرضاء هؤلاء الخاصة ويتحولون الى خدم وحشم ويشكلون سدنة وبطانة لهؤلاء الحكام يتملقونهم وينافقوهم من أجل العطايا والحصول على بعض من فتات الموائد.
ان فكرة المواطنة لم تكن موجودة في زمن المملكات والسلاطين والولايات والإمبراطوريات وكل ماهو موجود هو نمط من الحكم الفردي المطلق وعلاقة هرمية عامودية بين قمة الهرم وأسفله. عندئذ تكمن المواطنة في أن يظل الفرد محافظا على استقلاليته ومسافته النقدية التي تفصله عن سلطة الدولة، وبما أنه يصعب أن نجدها في الحياة اليومية وفي العلاقات الخاصة التي تربط بين الأفراد والجماعات فانه من الضروري أن نربي عليها الناس ونهذب سلوكهم وطباعهم على قبولها واحترامها والعمل بها.
لكن بما أن الدولة هي تنظيم السلطة القادرة على التحكم في الحياة العامة للأفراد فهل تعني التربية على المواطنة للتطهير من المسكنة والذلة التضحية بالحرية الفردية من أجل صيانة الوحدة السياسية؟
هذا السؤال يعاد طرحه اذا ما اعتبرنا الدولة جهازا غير محايد يديره مجموعة من الأشخاص لهم مجموعة من المصالح يستغلون هذا الجهاز لتحقيقها لنحصل على مشكل آخر جديد وهو خضوع أغلبية الأفراد الى أهواء الأقلية من الذين اختاروهم كممثلين باسم احترام مبدأ المشاركة والانتخاب والمواطنة. زد على ذلك ان إخفاق المشاريع السياسية الثورية التي أطلقت عدد ضخم من الشعارات الرنانة والوعود الكاذبة أدى الى تصاعد الأسهم العملية والإجرائية لمفهوم دولة القانون كوصفة سحرية يعتقد فيها البعض للخروج من دائرة الحكم الشمولي المكممة للأفواه والضاغطة على القلوب. بيد أن تعريف دولة القانون من خلال إلزامية طاعة الأفراد لإجراءات المؤسسة السلطوية الردعية والارغامية المادية لا يتيح لفكرة المواطنة أن تنشأ وتستقر في المجال المدني ولا يسمح بتحديد طبيعة الأنظمة السياسية غير المحتملة والتي لا تطاق نتيجة ممارساتها التعسفية ضد عامة الناس.
ان الديمقراطية كنظام سياسي صالح ترتكز على فكرة المواطنة كأساس شرعي يستمد منه جميع الناس دون تمييز هويتهم الحقوقية دون الحاجة الى إظهار الولاء ودون تقديم تنازلات جوهرية تمس طبيعتهم البشرية. وهذا الشكل من الحكم يظل أفضل النظم السياسية لكونه الأكثر قدرة على التجدد الذاتي دون الحاجة الى تدخل خارجي ولأنه يحترم المؤسسات ويتعالى على الأشخاص ويبقى على مستوى الموضوعية والحيادية وينأى عن الذاتية والتحيز لفئة على حساب أخرى ويحارب الطائفية والمذهبية والأولغارشية- حكم المجموعة- والمنوغارشية- حكم الفرد- وأثبت نجاعته في التصدي لكل أشكال العنف التي تهدد المجتمع من الداخل وتخترق تماسكه وأمنه وتعصف به من الخارج وتفتك منه سيادته على أرضه ومنعته وحرمة أجوائه.
ان الحياة داخل الدولة تتطلب مشاركة في التصدي للعنف المتفجر وإدارة الحوار العقلاني الهادئ لأن المؤسسة السياسية تحتاج في لحظة من لحظات تشكلها وتسييرها لأمورها الى وجود نمط من المتفاوضين قادرين على الانخراط في نقاش عميق يفضي الى نحت سياسة تعقلية تضمن نجاح الحلول المقترحة.
ان المجموعة الوطنية لابد أن تكون قادرة على مقاومة عشوائية تدخلات الدولة في سير الأحداث وأن توقف سياستها الارتجالية باستثمار فكرة الحق لمراقبة انفلات القوة. ان مقاومة غطرسة الدولة يمر حتما عبر التلويح بسلاح المواطنة والذي يفترض هو بدوره تهذيب على احترام المبدأ وتدريب على تقديس الفكرة لأن المواطنة ليست مجرد صفة ينبغي أن يستحقها كل امرىء ينتمي الى دولة بل هي معنى ينبغي أن يكون كل فرد أهلا لكي يستحق هذا اللقب ويطلق عليه هذا المعنى وفاقد الشيء لا يطالب بنيله وتضيع الحقوق عندما لا تجد من يطالب بها. لكن قبل كل شيء ماهي الدولة؟
نعثر على مجموعة من التصورات لمفهوم الدولة:
- الدولة في التصور التقليدي هي سلطة فوق المجتمع تضع نفسها كجهاز تنفيذي وإداري وقضائي في خدمة الطبقة المهيمنة ويساعدها على تحقيقها لمصالحها.
- الدولة في التصور الاشتراكي هي سلطة خارجية إدارية وبيروقراطية تحاول أن توفر الحرية والحقوق المادية للأفراد تجعلهم يتحركون في علاقة أفقية من خلال تنظيم قوة العمل وتقاسم عادل للخدمات الاجتماعية.
- الدولة في التصور الليبرالي في شركة اقتصادية تضع نفسها على ذمة السوق تخدم رأس المال وتضبط قواعد اللعبة الاقتصادية بسن القوانين والتشجيع على الملكية وتحقيق التنافس والتدخل في العلاقات بين مختلف الأطراف.
ثم ماهو مفهوم المواطنة؟ وما علاقته بالدولة؟ وكيف تكون الدولة دولة مواطنة؟
تحدد المواطنة نمط انتماء الأفراد الى الدولة إذ تعطيهم منزلة قانونية يحصلون بمقتضاها على حقوق وواجبات معينة،وهذه المنزلة ترتبط بالنسق القانوني الذي يحكم كل دولة بحيث تختلف المواطنة باختلاف النظام السياسي الذي تحتكم اليه الدولة. لكن مشكل المواطنة ليس مشكلا حقوقيا صرفا بل يرتبط كذلك بنمط انخراط الفرد بالمجموعة وشكل العلاقة التي يقيمها مع السلطة السياسية وبالتالي فهي مشكلا وجوديا اتيقيا بالأساس.
هذه المقارنات أنتجت تصورين للحلول الممكنة للعلاقة بين الدولة والمواطنة:
1- التصور الأول يعارض بين الدولة والمجتمع بتأكيده على حرية الأفراد والمجموعات بالمقارنة مع سلطة الدولة التي تظل في الخارج بحكم طبيعتها التكوينية الاستبدادية وفوقيتها وهو تصور يدفع الناس الى التمسك أكثر بفكرة المواطنة كوسيلة لمقاومة اضطهاد الدولة وظلمها.
2- التصور الثاني يأخذ بعين الاعتبار التراث والهوية والتقاليد في نظرته الى المواطنة ويحاول أن يدمج نظرة الانسان الى الحياة ورؤية في الوجود مع الطريقة السياسية التي يفضلها لتسيير شؤونه المدنية وهو تصور يبني فكرة المواطنة بالانطلاق من الثقافة الوطنية ويخضع السياسي الى سلطة الاجتماعي.
لكن عندما نعرف الدولة كجهاز معارض للمجتمع يكون مفهوم المواطنة قد بدأ يفقد قيمته واذا اعتبرنا الدولة شرا ضروريا بررنا التسلط والقهر الذي تمارسه الدولة ضد المجتمع واذا قلنا بضرورة تمتع المجتمع المدني بالعفوية والحرية حتى يجد أفراده هامش الحرية في الفعل والإبداع نكون قد نظرنا للفوضى والاعتباطية وهمشنا مفهوم المواطنة المسؤولة. فما العمل لتجاوز هذا الإشكال؟
ما نراهن عليه هنا هو الكف عن البحث عن فكرة المواطنة في واقع اللامساواة الاجتماعية والإفلاس السياسي فهذا الواقع الذي يدعي الراديكالية سيظل متنوعا ولا منتظما وتخترقه التناقضات وبالتالي يجب العمل بجد على ربط المواطنة بالفعل السياسي والالتزام الأخلاقي والوعد الديني والمسؤولية الاتيقية على الحياة في الأرض بمعزل عن منطق النسق المغلق والمأسسة الفوقية.
نستخلص اذن أن الانسان لا يكون مواطنا لاكتسابه مجموعة من الحقوق من طرف الدولة بل هو مواطن منذ البدء لحيازته ثقافة وتفرده بخصوصية وسعيه الى بناء هوية واثبات انية عن طريق التفكير والفعل والوجود.ان الذي يجمع بين المواطنين كمواطنين داخل الدولة ليس تمتعهم بمجموعة من الحقوق والواجبات وليس خضوعهم لنفس الحاكم بل الإرادة الجماعية في العيش المشترك والانتماء والتقاسم لنفس الثقافة الوطنية،ان أهم وظيفة للدولة هنا هي المحافظة على وحدة الثقافة والعمل على تنميتها وتجديدها من أجل المحافظة على وحدتها واستمراريتها.
ان الحل أذن هو في التطهير من المسكنة والمذلة التي يشعر بها الأفراد تجاه حكامهم والتوجه نحو التدريب على المواطنة ولكن كيف نجمع التربية بماهي بيداغوجيا وتكوين وترويض بالمواطنة بماهي برنامج عمل وفكرة موجهة ومفهوم حقوقي مستنبت في حقول السياسة؟ ألا تحقق فكرة التربية السياسية والسياسة التربوية هذا الغرض بالجمع بين المختلفين؟ لكن ما المقصود بالتربية على السياسة وسياسة التربية؟ ألا نسقط مجددا في الصراع على الكتب من أجل تهذيب العقول وإصلاح النفوس؟
* كاتب فلسفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية