محدِّدات أوليّة لحل المسألة الكردية في سورية

إذا أردنا البحث عن تصوّر لحل سياسي معقول ومقبول للمسألة الكردية في سورية، فإنه يجب علينا الانطلاق من عدد من المحدِّدات والمعايير الواضحة، وإلا فإن جميع المقاربات ستكون مضلِّلة وغير واقعية، وهو بالطبع الأمر الذي لم يحدث طوال عامين من عمر الثورة.
نعتقد أن التصور الأكثر قابلية للتحقق ينبغي أن يأخذ المحدِّدات التالية في الاعتبار:
1- حل مرحلي مؤقت: إذ علينا الاقتناع بأنه من غير الممكن في اللحظة السياسية الراهنة حل المشكلة الكردية في سورية دفعة واحدة، وهي التي لم تنشأ في لحظة ما، بل لها مسار تراكمي كبير عبر الزمن. بالتالي من الطبيعي أن تكون "الصفة المؤقتة" إحدى صفات أي حل عقلاني مطروح.
2- مشكلة معقدة ويتداخل فيها أطراف عديدة: القضية الكردية واحدة من المسائل المعقدة في العالم، إذ ما زالت المنطقة أسيرة الترتيبات التي وضعتها الدول الكبرى في الماضي بكل ما تحمله وما يتداخل معها من مصالح وتوازنات ونزاعات وتناقضات محلية وإقليمية ودولية. وبالتالي فإن حل القضية الكردية ليس مرتبطاً بسورية وحدها ولا بالعرب كلهم، إلا في حدود معينة، وإلا كطرف من أطراف عديدين.
3- البحث عن حل سوري: لم تبدأ المشكلة الكردية من سورية ولا تنتهي عند سورية، ولا هي بين الأكراد والعرب وحدهم، بل هي تمتد للعلاقات مع دول وشعوب غيرهما، وخاصة تركيا وإيران وروسيا، وهي ترتطم بالنظام الدولي القائم ذاته وتوازناته الاستراتيجية واستقطاباته الكبرى وتحالفاته، ومن غير الحكمة البحث في هذه اللحظة السياسية عن حل شامل للقضية الكردية يسمح بفتح كل أبعادها أو السماح لأطراف غير سورية بالتأثير في هذا المسار.
4- أزمة الهوية: ينظر الجميع للهوية على الدوام على أساس أنها تكونت وانتهت، وبالتالي ليس من دور للقوى السياسية سوى النضال لتثبيت هذه الهويات وضمان حقوق أفرادها وجماعاتها، على الرغم من معرفتهم أن معظم الخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى السياسية في سورية، بل ولجميع فئات الشعب السوري، قد نمت وتكونت في ظل بيئة استبدادية، ولم يتح لهذه الخيارات بعد التكون في بيئة صحية.
من المهم أن تتعامل القوى السياسية مع سؤال الهوية في هذه اللحظة السياسية بشيء من المرونة، وأن تترك فرصة للمستقبل لإعادة تكونها في ظل شروط وبيئة ديمقراطية. ما يحتاجه السوريون جميعاً هو فسحة من الأمل والديمقراطية لإعادة تكوين قناعاتهم ورؤاهم، وإعادة النظر بهوياتهم الموروثة أو المشوهة.
من غير المنطقي مثلاً وضع حق تقرير المصير على مائدة بناء الدولة السورية في اللحظة السياسية الراهنة لأنه سيكون خاضعاً للظروف والمعطيات التي خلقها النظام الشمولي، ولم يكن فيها دورٌ للسوريين، وهذا يفسِّر الحاجة لمرحلة انتقالية يجري خلالها تجاوز آثار الدولة الشمولية وإعادة بناء الثقافة الوطنية والهوية السورية.
5- المسألة الوطنية أولاً: إن منحى التطور العام لمعظم دول المنطقة العربية يتجه اليوم نحو التطور الديمقراطي، على المدى المتوسط والبعيد، وهذا التطور الديمقراطي سيعمل على تجديد الهويات الوطنية بالضرورة، وإن الصيغة التي ستكون عليها المسألة الوطنية في دول المنطقة العربية هي التي ستقرر مصير المسألة القومية، للعرب والكرد معاً.
6- حل سياسي بعيداً عن الأيديولوجية: لا يمكن الوصول إلى حل مشكلة بهذا المستوى من الأهمية والتعقيد بدلالة الأيديولوجية، ولا بد من تلمس حلول واقعية. لقد استبعدت أيديولوجيات الأحزاب القومية العربية الأكراد في السابق ورأت في عدم الاعتراف بوجودهم الواقعي وبحقوقهم الحل النهائي للمشكلة، لذلك لم تعترف بوجود مشكلة كردية في الواقع. كذلك فإن أيديولوجيات الأحزاب القومية الكردية نظرت للعرب على أنهم يحتلون ويغتصبون حقوقهم ويضطهدونهم. في الحقيقة لا يمكن الحوار بين هاتين الرؤيتين المتطرفتين.
7- الحل يتطلب قبول الشعب السوري: إن أي حل للقضية الكردية في سورية ينبغي له أن يحصل على رضى الشعب السوري. فالحل لا يعتمد على التوافق بين القوى السياسية العربية والكردية المعارضة للنظام السوري فحسب، وهذا يعني وجود الكثير من العمل أمام هذه القوى مع الشعب السوري، خاصة أن السوريين مع الثورة أخذوا يتعرفون لأول مرة على مشاكلهم وعلى بعضهم بعضاً للمرة الأولى، وأخذوا يتفاعلون معاً ويتبادلون همومهم وهوياتهم وأحلامهم وخلافاتهم.
8- النظام الديمقراطي والاعتراف بالتنوع: المبدأ الأساسي في الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة هو المساواة السياسية في الحقوق والواجبات بين الأفراد على أساس المواطنة، ورفض أي تمييز على أساس العرق أو الدّين أو الجنس أو الانتماء السياسي أو الطبقي. لذا فإن أيّ نظام سياسي يستمد شرعيته من هيمنة أغلبية دينية، أو طائفية، أو أيديولوجية عرقية، إنما يقوّض أساس الدولة، وبالضرورة المجتمع.
9- جدل السياسي-الحقوقي: الحلول القائمة على التوازن ما بين النظريات الحقوقية والاعتبارات السياسية هي المجدية، فالرؤى التي تنطلق من النظريات الحقوقية فحسب لا معنى لها، ولا تمتلك دائماً فرصة التطبيق العملي. إذ لو كانت "الحقوق" هي التي تصنع عالم السياسة والواقع لكان عالمنا بالتأكيد أفضل مما هو عليه اليوم. هذا يعني أن التسويات مطلوبة وأن التدرج في حل المشاكل السياسية المتراكمة هو الذي يمكن أن يجد الفرصة للتحقق واقعياً.
10- رفع مستوى الوعي السياسي: فالكثير من المصطلحات المستخدمة اليوم على مستوى القوى السياسية بكافة انتماءاتها وتوجهاتها لا زالت غائمة وغير واضحة المعالم، ولذلك هناك جدالات ونقاشات عديدة لا معنى لها، وتثير من البلبلة والفوضى وسوء التفاهم أكثر مما تقدم من الفائدة وتقريب وجهات النظر، كاختلاف مدلولات ومعاني العديد من المفاهيم السياسية لدى معظم القوى السياسية وممثليها، مثل: الشعب، الدولة، حق تقرير المصير، المواطنة، المجتمع المدني...... إلخ. وهذا يعني ضرورة التوافق على المعنى والإجابة عن أسئلة أساسية قبل محاولات تلمس الحلول للمشكلة القائمة: هل يمكن أن يكون هناك شعبان في دولة واحدة؟ ما الفرق بين القومية والإثنية؟ هل تبنى الدول على أساس إثني أم أن الدولة الوطنية هي التي تعيد بناء هوية شعبها؟ هذه الأسئلة، وأخرى غيرها، تحتاج لمقاربة عقلانية كي تسير محاولات تلمس الحلول في المسار الصحيح.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية