أسماء الجمع بين يدي الغربان
"ثورة سورية والعراق تطفئ نار المجوس" هذا هو اسم الجمعة المقبلة كما نقل عن ما يسمى "صفحة الثورة السورية" قبل أن يتم تغييره. مع ذلك، تبقى هناك أهمية لمقاربة هذا الأمر.
يمكن القول من دون تردّد إن انتقاءات هذه الصفحة وصفة سحرية للفشل، ولو ألَّف النظام السوري لجنة لإدارة هذه الصفحة لأثنت على الكثير من خياراتها في التسمية. المستبدون والمصابون بداء التشبيح دائماً يلتقون على الرغم من اختلاف السترة الخارجية الواهنة.
في الحقيقة السوريون يخرجون في التظاهرات أياً تكن أسماء الجمع، وهم يعرفون لماذا يتظاهرون، وليسوا بحاجة لأسماء جمع يضعها غرباء وغربان الثورة الذين يريدون، جهلاً أو مكراً، إلباس السوريين ثوباً ليس لهم ولا يليق بهم، بل إنه ثوبٌ ليس من الإسلام في شيء، الإسلام الذي لم يدّخر فرصة لتأكيد مبادئ رسالته السمحاء ونبذ التعصب والإقصاء واحترام الآخر، والوقوف ضد سياسات التكفير والانعزال والكراهية، فضلاً عن انفتاحه في الماضي والحاضر على الثقافات البشرية القديمة والجديدة.
لطالما كان الغباء سبباً في مصائبنا وكوارثنا، فهو – حتى لو توافرت النية الصادقة- خير من يخدم الخصم ويسيء إلى عدالة أي قضية. وهكذا هو الحال اليوم، فالبعض يحاول استخدام الإسلام لتغطية غبائه وجهله وطائفيته. نحن نعرف أهلنا جيداً، فهناك فرق كبير بين دين أهلنا والتشبيح الذي يحاول البعض تصديره مكتسياً "صبغة إسلامية" ليست من الإسلام في شيء. نعم بالتأكيد يختلف دين أهلنا الرابضين في دوما وداريا والمعضمية وغيرها عن دين أولئك الغرباء والغربان.
يظهر الجهل جلياً في عدم معرفة أن المجوس لا يزيدون اليوم عن مئتي ألف في العالم كله، وفي الموازاة بين إيران والمجوسية، أو بين الشيعة والمجوس. كما يظهر في الدلالات القيمية والسياسية، فالتسمية المقترحة تقدِّم من جهة رسائل خاطئة لتطلعات الثورة، بما تظهره من عدم احترام لعقائد ومعتقدات الآخرين. الثورة تظهر أفضل ما في المرء، وإن بدأت تظهر الأسوأ فهذه مشكلة. وتنمّ من جهة ثانية عن إسباغ صفات دينية أو أيديولوجية على صراعات سياسية أساسها المصالح وليس العقائد.
نفهم أن تتقاطع مصالح الثورة مع مصالح دول معينة، فهذا طبيعي في السياسة، لكن أن يصبح خطاب الثورة متسقاً مع خطاب هذه الدول وخدمة سياساتها والدوران في فلكها فهذا أمر مستهجن ومرفوض.
ينبغي ألا نخضع للابتزاز من أي طرف كان، خاصة الطرف الذي يحاول تغليف قناعاته ونواياه بصبغة إسلامية، نعلم جيداً أنها بعيدة عن التجربة الإنسانية للإسلام في تاريخ البشرية. وهنا تأتي مهمة كافة القوى والهيئات والمجالس والائتلافات التي تخلّت، على ما يبدو، عن مهمة رسم بوصلة سياسية وإعلامية جديرة بالثورة، كالائتلاف والمجلس الوطني وهيئة التنسيق والهيئة العامة للثورة ولجان التنسيق المحلية، وغيرها. فالثورة تضيع، وبالضرورة البلد، عندما نفقد البوصلة الوطنية، التي هي الأساس للنصر والبناء على حد السواء.
لا ينبغي أن يتحول السياسي إلى متسوِّل يشحذ "الشعبية"، فلا أحد يستطيع الادعاء أنه يمثل الشعب السوري، فهذا له آلياته التي ما تزال غير متوفرة. وهنا لا بدّ من تذكير أنفسنا والآخرين أن الموقف الوطني هو الميزان الذي تقاس به كافة معتقدات وأيديولوجيات البشر، ولا يمكن القول إن معتقداً ما هو دين الثورة أو دين النظام. فبعض رجال الدين والمشايخ لا يزالون في صف النظام ويفتقدون للحد الأدنى من الضمير الإنساني، بل إن بعضهم ممن التحق بالثورة كان إلى فترة قريبة من أهم ركائز النظام السوري، ولطالما أسعفوه بالتضليل والفتاوى والدعاء، ولا بأس بالطبع أن يصبحوا في صفوف الثورة، لكن الأمر يحتاج إلى القليل من التواضع. والأمر ذاته ينطبق على الليبراليين واليساريين والقوميين الموزعين ما بين النظام والثورة، لذا وجب على جميع المنضوين في الثورة أن يضعوا في اعتبارهم القضية الوطنية معياراً وبوصلة، والديمقراطية نهجاً وسلوكاً، إن أردنا بناء دولة ووطن ليسا على شاكلة النظام.
كان أمام صفحة الثورة السورية أربع مناسبات مهمّة لإدراجها والاختيار بينها على سبيل المثال. الأولى تتعلق بحمص وضرورة تسليط الضوء على ما تتعرض له من حملة أمنية عسكرية كبيرة، وحث السوريين على نجدتها. والثانية تخصّ مدينة الرقة وإنجازات أهلها. أما الثالثة فهي التسمية التي طالب بها كثيرٌ من الناشطين، أي جمعة المرأة السورية التي قامت بدور يوازي أو يزيد على دور الرجل. أما الرابعة، فهي ما أسمح لنفسي بتذكير السوريين بها، وتتعلق بيوم الثامن من آذار نفسه، الذي احتضن مناسبة سورية عظيمة، إلى جانب كونه عيداً للمرأة.
في هذا اليوم من عام 1920 قام محمد عزة دروزة، وهو من نابلس/فلسطين، بقراءة بيان استقلال سورية الكبرى باسم المملكة السورية العربية على الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة أمام مبنى بلدية دمشق، طالاً من شرفة البلدية. وقد صدر هذا البيان عن المؤتمر الوطني السوري الذي امتدّ عمره من 7 حزيران 1919 ولغاية 19 تموز 1920، وكان أول سلطة تشريعية سورية معاصرة، وأول صيغة برلمانية في المنطقة العربية. فقد شكّل المؤتمر لجنة لوضع دستور دائم للبلاد، ونصّ بيانه على تحويل البلاد إلى دستورية مدنية، وكفالة الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، والتساوي بين المواطنين، وعلى لا مركزية الإدارة. كما تطرق البيان لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، ورفض المشاريع الصهيونية أو أي تقسيم لسورية.
ضمَّ المؤتمر حوالي تسعين عضواً من كل أنحاء سورية الكبرى، ومن بينهم محمد فوزي باشا العظم، إلياس عويشق، سعد الله الجابري، محمود البارودي، يوسف لينادو عن يهود دمشق، هاشم الأتاسي، خالد البرازي، رياض الصلح، إبراهيم هنانو...، وآخرين كانوا من أهم رجالات سورية.
علينا أن نخجل من تاريخ سورية الذي يقدِّم لنا صفحات مشرقة تستحق أن نستلهمها. أليس مخجلاً أن تكون سورية قبل نحو قرن من الزمان أكثر تقدماً مما هي عليه اليوم؟
تبنى الثورات على الصفحات المشرقة في التاريخ وعلى حاجات الحاضر وآمال المستقبل. ولعل أهم عنصر فيها هو الوطن.. كل الوطن، فالثورة تجمع ولا تفرِّق، تصون ولا تهدِّد، تبني ولا تهدِّم، تمدّ جسور التواصل ولا تقطع السبل، وتسعى للذهاب نحو الأمام لا إلى الوراء. هكذا كانت سورية، وهكذا نريدها أن تكون.
مقال ينشر كل خميس
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية