المثالية القاتلة... د.محمد عروة القيسي*

المذهب المثالي صحيح، ولكنه لاينتهي إلى نتيجة كبيرة (الفيلسوف جورج سانيتا)
هل مثالية و مبدئية السوريين (ومنهم قيادات المعارضة) في فهم العالم ومقاربته على أساس أنه قائم فقط على القيم والمبادئ بدلاً من صراع الأضداد والمصالح، أدت إلى تأخر انتصار الثورة السورية؟
في حديث دار بيني وبين أحد الأصدقاء قال لي صديقي:لقد كشفت الثورة السورية أن كل قيم الغرب الأخلاقية من دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان تساوي صفراً في معادلة تشكيل قراره السياسي أو العسكري على الأرض وأنه لا يعبأ في سياساته إلا بالمصالح النفعية البحتة والدليل عدم تدخله عسكرياً في سوريا رغم كل ما فعله النظام من جرائم لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
أنا:ومتى كانت السياسة غير لعبة المصالح وتبادلها بشكل قائم على توازنات القوى وإن كان للمبادئ والأخلاق من مكان فيها فهو بشترط أن لا تتعارض أو تتنافى مع المصالح، فالدول ليست جمعيات خيرية ولا أحد هنا أبداً يقدم خيراً قد يؤذي مصالحه الإستراتيجية وبصراحة هم لم يكذبوا فهذا ما قاله وليد فارس(مستشار الكونغرس الأميركي في مكافحة الإرهاب) في لقاء معه على إحدى القنوات في بداية الثورة السورية"إن أميركا تتدخل لأجل القيم التي تنادي بها في حال لم يكن هناك تعارض مع مصالحها".
وفي حالة الثورة السورية، فإن التعارض القائم مع المصالح الأميركية هو دولة إسرائيل التي هي بالمجمل طفل أميركيا المدلل الذي قدمت له مئات المليارات من الدولارات منذ نشأتها وبالتالي لن تنسف كل ما قدمته لها عبر تاريخها الطويل وتتساهل مع أي بادرة خطر تهدد أمنها حتى ولو ذبح الشعب السوري كله.
وقد قالها أوباما مؤخراً صراحة إنه لن يسلح المعارضة السورية خوفاً على أمن إسرائيل وبالمقابل بشار الأسد ووالده لم يزعجا إسرائيل مطلقاً وكانا نعم الجار الحنون و الرؤوف عليها وأعلنها رامي مخلوف أن أمنها من أمننا (يعني هي في عيوننا وقلوبنا) وليس من المستبعد لجوؤه إليها علانية للمساعدة مثلما فعل القذافي في اللحظات الأخيرة الحرجة.
بالمقابل لم تقم المعارضة السورية بإزالة هذا الحاجز أو التعارض برفضها إعطاء ضمانات لأمن إسرائيل وبالتالي جعلت أميركا في مواجهة الثورة السورية.
أخبرني أحد الأصدقاء الذي كان مقرباً من المجلس الوطني منذ بداية تشكيله وعالماً بخفايا الأمور ومما يجري وراء الكواليس أن أميركا قدمت للمجلس الوطني عرضاً واضحاً وثابتاً ومنذ البداية فحواه تقديم ضمانات لأمن إسرائيل وتوقيع معاهدة سلام معها بعد سقوط الأسد و"سوف نسقطه لكم" هذه كانت هي الصفقة المقدمة.
ولكن المجلس الوطني الموقر كان دائم الرفض تحت ذريعة أن قرار السلام مع إسرائيل هو من القرارات الكبرى التي تخصّ الشعب السوري وحده و هو الذي يبت بها بعد سقوط االنظام وبآلية ديمقراطية وليست من صلاحيات المجلس الوطني أبداً.
هذا الكلام مثالي ومبدئي وأخلاقي ولكنه لاينتمي إلى عالم السياسة القذر القائم على تبادل المصالح والصفقات ويفهم منه بمنطق الكتل السياسية المعمول به حول العالم إنكم سوف تسقطون الأسد ثم تلتفتوا باتجاه إسرائيل لتزيلوها من الوجود، فهنا دائماً "من ليس معي فهو ضدي".
ولذلك قامت أميركا بإزالة المجلس الوطني من الواجهة أملاً بإيجاد بديل يكون أكثر تجاوباً معها خاصة بعد أن أصبحت الساحة السورية مرتعاً لفصائل إسلامية مسلحة ذات استقلالية في قرارها وعلى رأسها جبهة النصرة وهو ما أرعب أميركا، فإذ بالشيخ المخلص معاذ الخطيب عن جبهة النصرة في مؤتمر مراكش يدافع(لم يكن مطلوباً منه أيضاً أن يهاجمها أو حتى يذكرها، رغم أن كثيراً من السوريين يرون-وانأ منهم- أن عنف الأسد أصبح يستحق أناساً ببأس جبهة النصرة يجرعونه بعض السم الزعاف الذي يستحقه إلا أن هذا لا يقال علناً أوفي المحافل الدولية).
رغم أنه الشخص الذي يفترض أن مهمته إلغاء حالة التشرذم في العمل العسكري المضاد للنظام (هذا التشرذم الذي يضعف الثورة ويؤخر انتصارها ويضاعف خسائرها) وإلغاء كل الفصائل والأسماء وإذابتها في كيان الجيش الحر الواحد الموحد تحت قيادة هيئة الأركان المشتركة لتشكل ذراعا عسكريا للائتلاف وبذلك يكتمل منطق الدولة أمام المجتمع الدولي والذي لن يقبل بأقل من هذه الهيكلية ليتعامل مع السوريين.
الله يعلم وحده ردة فعل أميركا تجاه كلام الشيخ معاذ الخطيب فالثورة في سوريا تغير عنوانها في واشنطن من ثورة شعب يطلب الحرية وإسقاط الاستبداد إلى جبهة النصرة أو مكافحة الإرهاب وما لهجة الأسد المنتصرة في خطابه الأخير إلا دليل صفقة حدثت من تحت الطاولة مع أميركا وروسيا لإطلاق يد بشار في سوريا لتدمير جبهة النصرة حتى لو دمرت سوريا وبقيت الحرب تراوح عشرات السنين فيها وما أدل على ما أقول سوف تجفف موارد الجيش الحر من كل الأطراف الدولية بما فيها الخليجية، فروسيا وأميركا سوف تدعمان من يستطيع ضرب الإرهاب بغض النظر عن أي اعتبارات أخلاقية.
والضحية في كل ذلك هو الشعب السوري المسكين ضحية مثالية قادة المعارضة ومبادئهم بشكل من الأشكال وعدم إدراكهم لحجم المعاناة التي يعانيها الشعب ورفضهم أي شكل من أشكال البراغماتية السياسة المطلوبة أحيانا في لعبة الأمم ولو آنياً.
منذ فترة دخل إلى سوريا صحفي إسرائيلي يدعى ايتاي انغيل ولمرتين الأولى إلى درعا والثانية إلى ريف ادلب وفي كلا المرتين حل بضيافة الجيش الحر(من كان يصدق ان هذا يمكن أن يحدث في سوريا) وفي مقطع موجود على اليوتيوب يقول له أحد قادة الجيش الحر الذي يدعى أبو فادي هو كهل حارب إسرائيل سابقا "إذا جاء شارون وقال لي أنا ضد بشار فهو عيني".
برأيي لقد تغيرت مواقف الشعب السوري في الداخل (عكس قيادات المعارضة في الخارج) وهو حالياً مستعد لان يتحالف مع الشيطان الأزرق ليتخلص من بشار الأسد فبعد الذي عاناه السوريون من بشار أصبحت إسرائيل ملاكاً وشارون حملاً وديعاً ولنواجه الحقيقة المرة فإن إسرائيل لا تغتصب النساء الفلسطينيات في سجونها وإسرائيل لا تقصف المشافي والمخابز والمدنيين بهذه الطريقة أبداً.
وهنا نأتي الى السؤال الصعب تاريخيا على شعبنا وقيادات المعارضة وهو ما المانع من عقد صفقة مع إسرائيل وأميركا إذا كان فيها خلاص للوطن والشعب من الأسد الذي حول سوريا لولاية ومستعمرة إيرانية بالكامل وهذا يعني أن الثوار حقيقة في مواجهة مع إيران بكامل قوتها أما شبيحته فهي تغتصب النساء بالجملة (وثقت إحدى الطبيبات في مدينة دمشق لوحدها ألفي حالة اغتصاب).
أليست القاعدة تقول الضرورات تبيح المحظورات وهل من ضرورة أشد مما يحدث الآن في سوريا ولماذا لا نقبل حاليا التعامل مع الشيطان الأصغر حتى نتخلص من الشيطان الأكبر(الأسد وإيران).
سيرد أحدهم ويقول لا أ حد يتجرأ على أن يكررما فعله السادات ويقترب من النار المحرقة وإلا اتهم بالعمالة والخيانة وبيع الوطن, فإسرائيل هي الخط الأحمر في عقلية الشعب السوري ورمز الشر الأزلي.
ولهذا نقول ونذكر أن كل القيم والمبادئ والمسلمات و الحجج الدينية تصبح بلا معنى وفارغة من محتواها إذا لم تستطع حماية عرضك وشرف نسائك من الوحوش، ولذلك أرجو من ينادي بالمثاليات والوطنيات وهو مقيم في المغترب أن يعود مسرعاً إلى سوريا مع نسائه ليشارك السوريين آلامهم كاملة.
نعم سأخون وطني إذا كانت الخيانة تنقذ رجاله من الموت على حواجز النظام بلا سبب و أنا عميل إذا كانت العمالة تنقذ نساءه من الاغتصاب، فعلينا أن نعيد تعريف الخيانة هنا. ليس هناك خيانة أكثر من ترك السوريين لمصيرهم الأسود بين فكي النظام وليس هناك قيمة أو غاية أعلى من حياة الإنسان و الاقتصاص من القاتل هنا تصبح فضيلة لا تدانيها فضيلة بدلا من تركه يهرب تحت مسمى حقن الدماء.
فأشر المنافقين وأشر الكاذبين من يقول أن فلسطين أغلى من شرفه وعرضه أو أن إباحة دمائنا أحل دينياً من توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل ومصافحة قادته.
والحقيقة أن طريقة تعاطي قيادات المعارضة وخاصة المجلس الوطني مع الثورة ولغتهم الخشبية وعجزهم عن فعل أي شيء حقيقي للثورة السورية يستحق أكثر من وقفة تأمل أو حتى تحليل نفسي فهل معاناتهم طويلاً سواء في السجون الأسدية للبعض أو المنافي للبعض الآخر لأجل مبادئهم جعلتهم يسقطونها على الأمة فيقبلون أن يطول عذابها لأجل المبادئ والقيم والمثل العليا كما طالت عذاباتهم على اعتبار أن الإنسان كما يقول فرويد يسقط حياته وسيرته على الناس الآخرين والحياة بمجملها.
وأخيراً يجب أن لا ننسى أن أي نصر يأتي بعد مئات الألوف من الشهداء أو الدمار الكامل للبلد أو ينتج عنه الفوضى العارمة سيكون نصراً بطعم الهزيمة.
طبيب سوري مقيم في بريطانيا*
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية