حول "مؤتمر روما"... أصدقاء الشعب وأعداؤه خطان متوازيان لكنهما في سوريا يلتقيان

استطاع الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة إحداث ارتباك طفيف في صفوف القوى الدولية المتحدة ضد ثورة الشعب السوري، حين أعلن عن تعليق مشاركته في مؤتمر روما الذي انعقد يوم 28/2/2013، ولكن ما لبث هذا الارتباك أن تلاشى حين تم إقناع قادة الائتلاف بالتراجع عن قرارهم هذا والمشاركة في المؤتمر المذكور على خلفية إغرائهم بأن مساعدات حقيقية سوف تُقدَّم لثورتهم، وخصوصاً على المستوى العسكري..
بعض أعضاء الائتلاف صدقوا هذه الوعود على مضض، فذهبوا لحضور المؤتمر، وبعضهم كذَّبها ورفض الحضور، فخاب أمل من حضر ومن غاب على السواء، ذلك أن نتائج هذا المؤتمر لم تكن أفضل من نتائج سابقيه إذ أسفر عن خيبة أمل جديدة للشعب السوري، جرَّاء إصرار مَن سمَّوا أنفسهم (أصدقاءه)، على موقفهم الرافض لتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تُسرِّع ساعة الخلاص من القتل والدمار اليوميين، وبذلك أكدوا أنهم، في الواقع، ليسوا أقل إضراراً بهذا الشعب الصابر من الذين يجاهرون بعدائهم له في موقفهم المنحاز علانية إلى جانب النظام السوري، كما يجاهرون بإمداده بمزيد من الأسلحة التي يقتل بها شعبه.
*حرب باردة جديدة
إلى ذلك، لم تُخيِّب هذه النتائج أمل السوريين بمن يدَّعون صداقتهم فحسب، بل أكَّدت ظن كلِّ الذين يعتقدون أن كلَّ ما يدور حول الثورة السورية دولياً، وحول مستقبل صراع شعبها مع نظامه، ليس إلا نمط جديد مما يمكن تسميته (حرباً باردة جديدة)، بين القوى الدولية.. ولأن الحرب الباردة لا تستعجل الحلول للأزمات الساخنة، فلا شيء إيجابياً يمكن توقُّعُه ممن اجتمعوا في روما، على المستوى المنظور، يمكن أن يُعجل بخلاص السوريين من جحيم نظامهم، بل العكس هو الأكثر احتمالاً، لأن الفرقاء المتصارعين لم يصلوا إلى مبتغاهم بعد، وبالتالي، فمازال الكثير من السلبيات محتَمَلاً، خصوصاً بعدما ساقت تطورات الثورة السورية كلا الطرفين الأقوى تأثيراً في مجرياتها، وهم الولايات المتحدة وروسيا، للالتقاء في نقطة واحدة جعلتهما، على اختلافهما، متحدَّين ضد هذه الثورة، وراغبَين في إجهاضها..
ويمكن تحديد ماهية هذه النقطة بالقول إن كلتا الدولتين، روسيا والولايات المتحدة، صارتا تريدان بقاء النظام السوري، وإن اختلفت الأسباب التي تدفع كلاً منهما إلى الرغبة في بقائه.. فبالنسبة لروسيا، هو حليفها الوحيد الباقي في الشرق الأوسط، وتخشى إن هو سقط أن تفقد آخر موطئ قدم لها في هذه المنطقة، كما تخشى أن يحل محله نظام إسلامي متشدد قد يفكر في الانتقام منها لموقفها المؤيد لنظام الأسد.. أما الولايات المتحدة، وإن كانت تتمنى، كما تزعم، سقوط هذا النظام، إلا أنها تشاطر روسيا خوفها من حلول الجهاديين محله، ليس لأنها ترى فيهم خطراً على مصالحها فحسب، بل لأنها تراهم خطراً على أمن حليفتها إسرائيل ومستقبلها أيضاً.
وهكذا، نقلَ خوف الطرفين من الجهاديين إلى خندق واحد يقفان فيه معاً ضد الثورة السورية، فقررا التخلص منهم، مهما كان ثمن هذا التخلص باهظ الكلفة على الشعب السوري..
* "لو" تفتح أعمال الشياطين
وقد كان من الممكن أن تكون الحال أقل تعقيداً لو أن الأسد لم يكن متشبثاً بالسلطة إلى درجة عدم التردد في إفناء السوريين كلهم، إذا كان إفناؤهم يضمن له البقاء فيها، الأمر الذي يؤكده اختيار سياسة السير على حافة الهاوية في التعامل مع شعبه من جهة، ومع التهديدات الدولية والإقليمية لبقائه..
ومرة أخرى، كان من الممكن إزاحته لو كان وحده في الصراع ضد خصومه، لكنه ليس كذلك، بل هو مدعومٌ من طائفته أولاً، ومن حليفته المذهبية إيران ثانياً، ومن روسيا التي تغدق عليه الدعم العسكري والسياسي غير المحدود ثالثاً.. الأمر الذي كبّل أيدي الغربيين، كما يزعمون، وجعلهم يخشون إن هم حاولوا تنحيته بالقوة أن يتطور تدخلهم إلى صراع واسع مع حلفائه، قد يقود الجميع إلى حرب عالمية ثالثة، كما زعم أحد الباحثين الأمريكيين.
وهنا أيضاً، كان من الممكن أن يتم إنهاء الأزمة السورية، لو استطاع الأسد ونظامه القضاء على ثوار شعبه سريعاً، بعدما حظي بكل هذا الدعم المكثف من حلفائه، وبالحماية غير المباشرة ممن يدعون أنهم أصدقاء شعبه، عبر ممارسة الصمت تارة وإطلاق الوعود الخلابة والسرابية تارة أخرى، مانحين له الفرصة تلو الفرصة لتصفية الثورة ضده والقضاء عليها، وكسر إرادة حاضنتها الشعبية، لكنه لم يستطع.. لأن الثائرين ضده وصلابة إرادة حاضنتهم الشعبية إلى تلك الدرجة غير المتوقعة، رغم جسامة الخسائر البشرية والمادية التي مُنيت بها، كان أقوى من طائرات حلفائه وصواريخهم، وأقوى من مكر الذين تظاهروا بالعداء له وكانوا، في الواقع، أعداءً لشعبه.
ولو أن هذه الإرادة الصلبة بقيت دون نتائج ملموسة على الأرض، لما اهتم بها أحد في المجتمع الدولي، لكن المشكلة التي فاجأت حلفاء النظام والمتظاهرين بعدائه معاً، قدرة الثوار السوريين على تسجيل انتصارات متتالية ضد قوى النظام، على الرغم من فارق القوة العسكرية بينهما إلى درجة كبيرة جداً.. وخصوصاً بعد تدفق سيل الأسلحة الروسية عليه تحت بصر المجتمع الدولي وسمعه، وقرار أصدقاء الشعب السوري المزعومين بحظر تسليح ثواره الذين خاضوا حرباً أسطورية استطاعوا من خلالها أن يمتلكوا السلاح الذي يحاربونه به مما غنموه من قواته أثناء معاركهم معها. وهكذا تراكمت الانتصارات لتصنع بداية النهاية للنظام المدعوم دولياً، ودون مساعدة من أحد، الأمر الذي بات يُشكِّل تهديداً حقيقياً لمصالح أعداء الشعب السوري ومدعي صداقته على السواء، فضلاً عن تهديد أمن حليفتهم إسرائيل التي ظل هذا النظام يقوم بدور الحارس الأمين لأمنها، طيلة عمره المديد الذي تجاوز الأربعين سنة.
* اتفاق ضمني بين القطبين
وهنا، بدأت تختلف الرؤى الغربية ومعادلاتها الصانعة لمواقفها تجاه طرفي الصراع أي النظام والشعب السوري الثائر.. ذلك أن نجاح من يسميهم المجتمع الدولي بالجهاديين باتوا على وشك النجاح في إسقاط النظام كلياً، وهو ما يعني بالنسبة لروسيا إخراجها من سوريا والشرق الأوسط كلية، ولكن دون أن يعني ذلك السماح للغرب بقيادة الولايات المتحدة للحلول محل الروس بعد خروجهم، وخصوصاً إذا نجح الإسلاميون في القبض على زمام السلطة في سوريا ما بعد الأسد.. بل يعني خروج الغرب وروسيا وإيران معاً، حتى من القدرة على التأثير ولو جزئياً في توجيه دفة القرار السوري المستقبلي..
هذا الاحتمال القاتم بالنسبة للطرفين الروسي والأمريكي وحلفاء كل منهما، كان وراء التقائهما على ضرورة عدم الدفع باتجاه الحسم العسكري لصالح قوى الثورة المسلحة بأي شكل، والإصرار على أن المنفذ الوحيد للخروج من هذه الأزمة، وإنقاذ ما تبقى من سوريا وشعبها، هو الانتقال السلمي للسلطة، عبر الشراكة بين النظام والمعارضة، لظن الطرفين الروسي والأمريكي أن هذا الحل سيُخرج الأسد والمعارضين الجهاديين من اللعبة معاً، كما سيؤدي إلى إجهاض الثورة السورية بأهدافها الحقيقية، وهو ما بات مطلباً إقليمياً ودولياً، كما يبدو.
أما كيف يعتقد الروس والأمريكيون تحقيق انتقال سلمي للسلطة، فحسب الطروحات المتداولة، يمكن ترتيب هذا الانتقال عبر شراكة سياسية بين المعارضة والنظام، أو تثبيت الوضع الميداني على أرضية المراوحة، دون تمكين أحد الطرفين من الحسم لصالحه، وبذلك بتحقق منع الجهاديين من الوصول إلى السلطة، ومنع الأسد من هزيمة قوى المعارضة، وفي مقدمتها الجهاديون.. ويمكن إبقاء هذا الوضع على حاله لفترة، حتى يتعب الطرفان، ويصاب كلاهما باليأس من تحقيق الانتصار، فلا يبقى أمامهما سوى القبول بالشراكة السياسية.
وإدراكاً من الطرفين لهذا المسعى الأمريكي/الروسي الجديد، عمل كلاهما على إجهاضه، كما يبدو، على الرغم من تناقض الأهداف التي يسعى إليها كلٌّ منهما، وكلُّ واحد بوسيلته الخاصة. فالأسد زاد من تصعيد عملياته ضد المعارضة كمّاً ونوعاً، باستخدام صواريخ سكود والطائرات وباقي أصناف الأسلحة الثقيلة الأخرى، ضد المدنيين، ليدفع قوى المعارضة إلى رفض الحوار معه، وبالتالي، رفض الشراكة السياسية مع نظامه. أما قوى المعارضة، وفي مقدمتها الجهاديون، فقاموا من جانبهم بزيادة الضغط العسكري على النظام، لدفعه إلى رفض الحوار معهم أو قبولهم شركاء له في السلطة، وبأي صيغة.
* فتوى اخلاقية
وهكذا، حين وصل الوضع في الميدان العسكري إلى مرحلة التوازن الذي لا يمكن لأيٍّ من الطرفين تجاوزه، كما لا يمكن للولايات المتحدة وروسيا القبول به، نظراً لارتفاع فاتورة القتل والتدمير اليومي، قررت الدولتان التوصل إلى اتفاق ثنائي تعملان بموجبه على تجاوز وضع التوازن بفتح ثغرة في قرار حظر تسليح قوى المعارضة، على أن لا يتم تسليحها بما يُمكنها من تحقيق انتصار سريع وحاسم على النظام، تستطيع بموجبه القبض على زمام السلطة والانفراد بها، هذا بالإضافة إلى احتمال قوى الغرب بفرض منطقة عازلة في الشمال لتديرها القوى الموالية للغرب، بغية تخفيف أعداد القتلى واللاجئين من المدنيين، لاسيما وأن فرض منطقة كهذه لن يُكلف الغرب كثيراً، إذ يمكن تحقيقها بتقديم مواقع بطاريات باتريوت الموجودة في تركيا إلى الحدود السورية قليلاً، وبذلك يمكنها توفير غطاء يحمي الشمال ولو جزئياً، من طيران النظام..
ويأمل الأمريكيون والروس معاً أن تُساهم هذه الخطوة في تخفيف الضغط الأخلاقي والإنساني على كليهما، والذي طالما أحرجهما وأحرج المجتمع الدولي معهما ايضاً.. ومن جهة أخرى، يأمل الطرفان أن تُساهم هذه الخطوة أيضاً في ترويض قوى الثورة، ولاسيما حاضنتها الشعبية التي تعبت كثيراً، عبر إقناعها بالحفاظ على الهدنة في مدن الشمال، مقابل استمرار توفير الغطاء الجوي، وإذا بلعت قوى المعارضة هذا الطعم، وضعفت إنسانياً أمام ضغط حاضنتها الشعبية، فستكون قد ساهمت بذلك في وضع بداية لتقسيم سوريا.. وهو تقسيم سيفرضه الواقع الجديد، كما يأمل الأمريكيون والروس، قياساً على حالات عديدة سابقة مشابهة، عندما يتم وقف إطلاق النار بين أي طرفين متنازعين، إذ تتحول خطوط وقف النار إلى حدود بينهما، مع الوقت، خصوصاً وأن توفير المنطقة الآمنة في الشمال سيقود الحاضنة الشعبية لقوى الثورة السورية إلى النزوح إليها بأعداد كبيرة، بدلا من اللجوء إلى دول الجوار ومعاناة الأمرين فيها.
ويبدو أن النظام لن يمانع إذا لمس أن التقسيم هو الذي سيكون النتيجة النهائية لصراعه مع الشعب السوري، بل ربما ساهم هو نفسه في دفعهم إلى النزوح باتجاه المنطقة الآمنة، عن طريق زيادة عمليات قصف بقية المناطق التي يرغب بالسيطرة عليها، وما ينتج عن القصف من قتل وتدمير ممنهج للبيوت والقرى. وفي حال تمَّ له تحريك السوريين تحت وابل القصف نحو المنطقة الآمنة، في الشمال، وساعدته دول الجوار بتحريك اللاجئين إليها نحو تلك المنطقة الآمنة نفسها بزيادة الضغط المعيشي والإنساني عليهم، فستكون النتيجة إحداث تغيير كبير في التركيبة السكانية لسوريا، الأمر الذي سيساعد كلاً من الولايات المتحدة وروسيا في تثبيت عملية التقسيم وجعله أمراً حتمياً لا مفر منه، كحل لمعاناة السوريين الذين سيقبلون به، كما يأمل الطرفان للخلاص من فقدان الأمن وبدافع الرغبة في الاستقرار..
وبهذا، يكون مؤتمر روما، في غايته غير المعلنة، تمهيداً لخلق واقع جديد يخدم مصالح القوى العظمى التي اصطدمت بتوازنات فرضت عليها تثبيت الموقف لأجل غير مسمى..
د. أثال العاص - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية