سؤال الهوية
لم يتح لسؤال الهوية حتى اليوم العيش في بيئة صحية، وتجلّى دائماً بسيطرة الماضي والتاريخ والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل. إذ ينظر للهوية على الدوام على أساس أنها تكونت وانتهت، وبالتالي ليس من دور للقوى السياسية والمثقفين وغيرهم سوى النضال لتثبيت هذه الهويات كما هي أو كما وُرثت.
هذه الآلية في التعاطي مع موضوع الهوية ذات منحى أيديولوجي، يرتكز في الغالب الأعم إلى هواجس الخوف وعدم الأمان، ومن البديهي القول إن هذه الآلية لا تنتج فهماً سوياً للهوية، وتؤدي في المستوى السياسي لنمو ذهنية "المحاصصة" المعيقة لبلورة ما هو عام وتوافقي ومشترك.
معظم الخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى السياسية في سورية، بل ولجميع فئات الشعب السوري، قد نمت وتكونت في ظل بيئة استبدادية، ولم يتح لهذه الخيارات بعد التكون في بيئة صحية. لذا من المهم أن تتعامل القوى السياسية مع سؤال الهوية في هذه اللحظة السياسية بشيء من المرونة، وأن تترك فرصة للمستقبل لإعادة تكونها في ظل شروط وبيئة ديمقراطية.
ما يحتاجه السوريون جميعاً هو فسحة من الأمل والديمقراطية لإعادة تكوين قناعاتهم ورؤاهم، وإعادة النظر بهوياتهم الموروثة أو المشوهة، الأمر الذي يخفِّف من حدّة الدفاع عن الموروثات ويرفع من سوية الدفاع عن الخيارات الحرة.
ويأتي في طليعة العوامل المؤثرة في صناعة الهوية، العلاقة مع الغرب والموقف من حضارته، وما يستتبع ذلك من عقد النقص إزاءه، فقد كانت مشاعر الدونية، ولا تزال، حاضرة بقوة تجاه هذا الكائن المتفوق علماً وثقافة وحضارة، مهما اختلفت وتنوعت الاتجاهات والقناعات.
ومن تعبيرات ذلك محاولات كتابنا ومفكرينا منذ بداية القرن العشرين أن يبرهنوا على عظمة التراث العربي والإسلامي ومدى تأثيره في الحضارة الأوربية وتطورها. ومن خلال تذكيرنا للغرب بعطائنا الحضاري له إنما نؤكد رغبتنا الدفينة في أن نكون مثله. وهذا الشعور بالنقص هو الذي يدفعنا أيضاً في الاتجاه المعاكس، أي إلى الطعن في كل ما هو غربي وإلى التعلق الأعمى بالتراث والتقاليد، بما يعكس حالة من النكوص إلى الداخل وتغلب المعرفة الدفاعية والفكر الدفاعي على المعرفة النقدية والفكر النقدي. من هنا كانت نظرتنا إلى أنفسنا وإلى تاريخنا وإلى العالم نظرة خاطئة تقوم على الحاجة النفسية الدائمة إلى تعويض الشعور بالنقص.
ما يزيد الطين بلّة هو خطاب الهوية إزاء خطر "الخارج"، إذ نطرح، دائماً وأبداً، أهدافاً سياسية كبرى، على الرغم من أن الهزيمة تعشش منذ وقت بعيد، وما تزال، في العظام. وتحت تأثير عقدة "الخارج" يتم التمسك بجدول أعمال يدور أساسا ًحول الهوية القومية أو الهوية الإسلامية أو الاشتراكية، وهو سلوك سهل لا يتطلب الكثير من التفكير.
العجز الواقعي عن الفعل، والإهانة المضمرة التي يشكلها لنا وجود هذا الكائن القوي، أي الغرب، يجري مجابهتها والتعويض عنها بمواقف إنشائية كلامية، وبقدرات بلاغية هائلة، لاستنفار المخزون الروحي، ولكنها للأسف لا تتضمن أي إمكانية للتجسيد على أرض الواقع، وكلما زاد العجز زاد الإنشاء، وكلما كان حضور "الخارج" كثيفاً يجري التركيز على قضية الهوية القومية أو الإسلامية بشكل مرضي ووسواسي. أي تأخذ "الهوية القومية أو الإسلامية" في هذا الوعي طابعاً وسواسياً تجاه الآخر، وشكل تعيينات قطعية، مغلقة وثابتة، وهذا الفهم السكوني، بشكل أو بآخر، يعيق استقبال العناصر الإيجابية في الثقافات الأخرى، بسبب سيطرة هواجس ووساوس الغزو الثقافي.
الهوية، هوية أي فرد أو مجموعة بشرية، هي كائن متجدد على الدوام، وينبغي إعادة بنائها في كل لحظة بالانطلاق من حاجات الحاضر وأفق المستقبل، وليس النظر إليها باعتبارها شيئاً تكون في الماضي وانتهى.
الهوية الحقيقية بشكل أساسي هي ما ننتجه الآن وهنا على الصعد كافة، وفي ضوء ذلك فقط تغدو هويتنا كائناً حياً وخصباً وقابلاً للنمو والتطور باستمرار، على النقيض من الهويات المعيقة والميتة التي لا تفيد إلا في كونها تؤكِّد على عجزنا وقلة حيلتنا.
مقال ينشر كل خميس
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية