أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عن جليس الطاحون الأعمى

بدأت طواحين الماء تختفي من وادي حزور الواحدة بعد الأخرى. وبدأ الطحين يصل إلى المنطقة جاهزاً في أكياس بيضاء. سرعان ما اكتشف لها القرويون فائدة أخرى غير تعبئة الطحين، وهي تحويلها إلى (كلاسين) للأولاد والرجال والافتخار بذلك، ومن كان سعيد الحظ من الأولاد كان كلوسنه مكتوباً عليه"هدية من الشعب الأمريكي" مع صورة اليدين المضمومتين على بعضهما.

كان جفاف بداية ستينيات القرن الماضي قاسياً على البشر والطبيعة، مما أعطى الفرصة للسلطات كي تخفي تقصيرها، كما هي العادة دائماً، أن توعز لرجال الدين بالقول للناس إن الله يعاقبهم على انتشار الفساد بينهم، وابتعادهم عن الدين وعدم طاعة ولي الأمر منهم، ولذلك يحبس المطر عنهم، مما أدى إلى جفاف الضرع والنبع. مع ازدياد الجفاف، تراجعت كمية المياه المتدفقة من ينابيع وادي حزور، ولم تعد كافية لتشغيل الطواحين وسقاية الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى عدم الحاجة لها نتيجة توفر مادة الطحين جاهزة، وهجرة شباب المنطقة إلى المدن للتطوع في الجيش الوطني وفي سلكَي الدرك والشرطة، مما ساهم بدوره في إهمال الزراعة المحلية وانتشارالتصحر وتراجع إنتاج الحبوب. كل ذلك ادى الى اغلاق الطواحين الا واحدة بقيت تعمل لتلبية متطلبات القرية والجوار، وكان جليس هذه الطاحون جارنا مخول الأعمى.

من غير المعروف لجيلنا متى بدأ مخول الأعمى، جليس الطاحون عمله في طواحين حزور، كما أنه من غير المعروف من أين جاء، وهل كان بالأصل أعمى أم أن العمى أصابه فيما بعد نتيحة مرض ما، وما أكثر الأمراض في تلك الفترة التي تؤدي للموت وليس للعمى فقط، كما هي أمراض المعارضة السورية في هذه الأيام التي تكاد تقتل وطناً بملايينه. كان الرجل فقيراً لدرجة أنه لم يكن يطلب أجراً عن عمله، كان يكفيه أن يعود في آخر نهاره إلى بيته وفي جيوب سرواله بعض الطحين الذي هو مزيج من القمح والشعير والذرة الصفراء والذرة البيضاء، فكانت زوجته (تمينة) تحوله إلى طعام يقيهما الجوع الذي لا يرحم.

كان الرجل يعيش كالشبح في القرية. وكان نادراً ما يراه الناس، لأنه كان يغادر بيته قبل الفجر إلى الطاحون ولا يعود إلى آخر المساء. ولما كان حجرا الرحى في الطاحون لا يدوران إلا بتوفر حد أدى من تدفق المياه، كان نهار مخول الأعمى يبدأ من النبع المتفجر عند قدمي القرية والذي يبعد حوالي ثلاثة كيلو مترات عن الطاحون، فيخلع حذاءه إذا كان موجوداً، ويرفع ساقي سرواله (شنتيانه) جتى الركبتين، ويبدأ المشي في الساقي الترابي، قاطعاً المسافة الخطيرة جداً في بعض المناطق، حيث يصل ارتفاع الساقي إلى عدة أمتار عن مستوى الأرض من طرفها اليميني، وأي خطأ، أو كما يقال: دعسة ناقصة، قد تؤدي بحياته. كان يغلق كل الفتحات التي يتسرب منها الماء، مستخدماً الوحل والحجارة في ذلك. وكان يعرف كل فتحة يتسرب منها الماء إلى أي أرض تذهب، ومن هو صاحبها، ومدى التزامه بقانون تقسيم المياه أو عدم التزامه به، وما هي كمية المياه التي تتسرب هنا أو هناك، وكان حكمه على الناس وأخلاقهم مستمداً من التزامهم بهذا القانون أو عدم الالتزام به، أو محاولة سرقة المياه العامة المخصصة للطاحون، وخاصة في الصيف.

في أواخر السينيات، عدت في إجازة صيفية إلى القرية بعد غياب أكثر من سنتين عنها، ورأيت جارنا مخول الأعمى جالساً في داره، مسنداً ظهره على جدار، كان عجوزاً كما عرفته دائماً منذ عشرات السنين وكأنه لا يكبر، فألقيت التحية عليه. لم يتردد ولا ثانية، قائلاً: أهلين عمي مخاييل، كيفك، ما شاء الله كبران وصاير شاب. كان يحدثني وكأنه يراني. قال: عندما يكون عندك وقت تعال حدثني عن حمص ودار المعلمين. كان يسحرني بعمق معرفته للحياة ولطباع البشر. كان حجر الطاحون أو رحى الطاحون الذي يحوّل الحبوب إلى طحين قد علمه الصبر والمثابرة، وكان الطحين والمياه وحاجة البشر لهما لاستمرار الحياة قد أكسباه معرفة عميقة بالطباع البشرية، كانت هذه العناصر تهمس له دون جعجعة بطباع كل واحد من أفراد القرية رجالاً ونساء. كانت الطاحون تطحن البشر أيضاً، فتعيدهم إلى أصلهم، إلى تراب.

في جلساتنا الأخيرة، في ذلك الصيف، قال لي الكثير عن أهل حزور، عن لصوصهم وقديسيهم، عن نسائهم الشبقات وعن المتصوفات منهن، عن انقساماتهم وصراعاتهم على المياه وعلى حبة القمح. وعندما سألته عن سياسة أهل حزور والأحزاب التي بدأت تغزو الشباب، قال: إنه كان يتمنى أن يكون هناك أحزاب في القرية، وأن مانراه هو عائلات متصاعرة لبست ثياب الأحزاب، ثم سقطت هذه العائلات وشعاراتها لصالح زعيم كل عائلة الذي حاول أن يسخرالقرية وخيارتها لصالحه وصالح أولاده، وهكذا سقط العيش المشترك كله بين أنياب مجموعة من الذئاب التي لا تعرف الشبع. قبل هذه السياسة كانت كل عائلة تعرف حدودها وتفتخر بذلك، لأن معرفة حدك يجعلك تعرف حد العائلة الأخرى فلا تتجاوزه، وهكذا كان يصان السلم الأهلي في القرية، أما الآن فلا أحد يعرف الحقيقة فقد اختلطت الأمور كلها ببعضها كما تختلط الحبوب تحت رحى الطاحون فيكون النتاج طحيناً من الصعب فرز الحسن فيه من السيء..
سألته عن العشق، عن النساء، لم يقل شيئاً.

ولكن جليس الطاحون الأعمى كان يروض المياه فيمتطي صهوتها ويقودها من النبع إلى المصب، وكانت قدماه دائماً في الماء والطحين.

(103)    هل أعجبتك المقالة (102)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي