1
منذ يومين، سألني أحد الأصدقاء في المجلس الوطني عن تقديري لمبادرة الأخضر الإبراهيمي ونقاطه الست، فأجبته بأني في سبيلي إلى كتابة شيء عن ذلك على أن أستكمل ذلك بعد ميونيخ وعلى ضوء ما سيستجد فيها. على أن هذه المستجدات،عندما جاءت، كانت خطيرة وعاصفة لدرجة أجبرتني على تناسي الإبراهيمي بعض الوقت لأكتب عن مبادرة الشيخ معاذ. واليوم أخبرت ابني إنني أكتب تعليقاً على هذا الموضوع، فأجابني وهو عارف بما يخالجني: "لا تكن قاسياً على الرجل..."
بالطبع ليس لهذا أكتب... لقد مضت الآن على مبادرة الشيخ معاذ خمسة أيام، وقد كنت قد التزمت الصمت العلني خلالها وامتنعت عن الإدلاء بتصريحات صحفية عنها وعن التبلضم حولها. على أني لم أعد أرى الآن مانعاً من التعقيب عليها خصوصاً بعد تطورات ميونيخ الخطيرة. إنني أكتب لأناقش الأمر بدون كثير من العاطفة وبقدر من المصارحة التي أعتبر أنها من حقنا على بعضنا البعض في ركاب هذه الثورة الجليلة. ولا يدفعني الآن إلى ذلك إلا تخوفي من أمور كبرى تنساب مياهها خلسة تحت أقدامنا.
وأود بادئ ذي بدء التعبير عن رفضي لبعض ما سمعته عن المبادرة. النقد من حق الجميع ولا أحد يمكنه القول إنه فوق النقد. أما التخوين فهو مرفوض قطعاً. وأنا في ذلك إنما أصطف إلى جانب الشيخ الكبير.
الصمت العلني الذي اخترته لنفسي خلال الأيام الماضية لم يمنع أني منذ الساعات الآولى بعثت برسائل خاصة إلى الأصدقاء من "صناع القرار" في الائتلاف وفي المجلس ممن ائتمنني على دور استشاري لديهم، والشيخ معاذ على رأسهم. ولا بأس الآن من ذكر ما قلته لهم بعد أن انتشر بين الأصدقاء عبر القنوات الخاصة. وقد بدأتُ بتوجيه اللوم للمجلس على ردة فعله القاسية قبل أن أتوجه مباشرة للشيخ معاذ.
قلتُ لهم بصراحة:
إني أرى أن من سوء طالعنا جميعاً كمعارضين أن يتعرض الشيخ معاذ كزعيم [مفترض] للائتلاف، وبالتالي للمعارضة بل وللثورة، إلى انتقاد ناري علني من جانب المجلس الوطني. كان الأجدى بالأخوة أن يتبينوا الموقف معه وأن يستفسروا عما يبدو إعلاناً غير مفهوم من جانب معظم أشخاص المعارضة والثورة.
وخاطبتُ الشيخ معاذ مباشرة:
"كان من المفيد قبل الإعلان [عن الاستعداد للتفاوض] أن تتناقشوا معهم [المجلس] ومع أطياف المعارضة الأخرى ومع الثوار بالداخل، وهذا هو الأهم، قبل إصدار إعلان كهذا يمكن أن يؤدي في جملة ما يؤديه إلى زيادة الانقسام في صفوفنا وإثارة الالتباس لدى الحلفاء وإعطاء النظام نصراً مزعوماً بلا ثمن يفتح الباب أمامه على مصراعيه لاستغلال الموقف والتطبيل بأن الثورة قد انتهت وأن عهد الحوار قد بدأ وهذا ما فعلته أبواقه وبالفعل..."
وتوجهتُ إليه وإليهم بالرجاء:
"أن تجدوا طريقة لاستعادة ثقة الناس بكم فهذه الثقة لم تكتسبوها بالسهل ولا يمكن تقديرها بثمن وليس من المجدي إضاعتها بلا سبب." وتقدمت باقتراح عملي يقوم على إصدار بيان لرأب الصدع يفسر ما حدث ويتجاوزه ويؤكد على "الوحدة في سبيل هدف واحد أساسي ألا وهو ذاك الذي يحظى بإجماع بيننا ويتمثل بالإطاحة بالنظام بكامل رموزه وشخوصه وآلته الدموية."
2
المشكلة هي التورط والتوريط في أمور كبرى حاسمة دون توفر إجماع أو حتى توافـُـق عليها لا على مستوى القيادة ولا بينها وبين القاعدة. أكثر ما أخشاه أن تأتي من الثورة، في غياب تشاور حقيقي مع الثوار، ردود فعل علنية جديدة مضرة جداً بصورة الائتلاف وصفته كممثل "شرعي" للمعارضة والثورة.
لقد وضعنا ثقتنا في الائتلاف كمجموعة واعتبرنا أن عملهم الجماعي المشترك يقيهم من الزلل إلى مواقف فردية. نعم هناك حاجة إلى هامش للقيادة تـتحرك فيه كما دعا أحد القياديين، فهي لا يمكنها أن تعود إلى كل شخص فينا لتأخذ رأيه وموافقته كلما أرادت أن تتنفس. ولكن هذا لا يعني أن بإمكان أي كان في قيادة الائتلاف أن ينتزع هامشاً أكثر عرضاً من الائتلاف ومن المعارضة كلها ومن الثورة أيضاً وأن يتحرك فيه دون أن يعود إلى غيره من القياديين للتشاور والبت والموافقة... ولا بد أن تتسع قاعدة التشاور هذه كلما كان التحرك أكثر خطورة.
ولا يجوز بالطبع من قيادي بهذا المستوى أن يتذرع، أمام منتقديه، بأن ما قاله هو مجرد رأي شخصي. فالمرء يتخلى عن صفته الشخصية عندما يقبل أن يمارس العمل الخاص على رأس منظمة ديمقراطية.
الإبلاغ بعد الحدث وعبر وسائل الإعلام لا يعني التشاور وهو تصرف خارج عن أصول الالتزام التنظيمي والعمل الديمقراطي. ورئيس الائتلاف رئيس توافقي بالضرورة وإعطاء الائتلاف صفة الزعامة له لا تعني أن المجموعة تسمح له بأن يكون فوقها وأن يتجاوزها، وهذا ما يبدو أن الشيخ معاذ قد فعل: فعلى الرغم من أن اجتماع المكتب السياسي، وهو المكتب الذي كان قد عينه هو، لم يخلص إلى قرار مؤيد بشكل واضح قاطع للمبادرة، فإن رئيس الائتلاف بعد أن اطلع على مواقف رفاقه اكتفى بالرد عليها بأسلوب منافح ثم انتقل إلى دفع مبادرته قدماً في ميونيخ في إطار تحرك جامح يعتبر كثير من أعضاء الائتلاف أنه تجاوز كثيراً من الخطوط الحمراء التي وضعوها، وكأنه وضع الائتلاف في جيبه وكأنه أصبح "صاحباً" له.
وعلى صعيد أخر أكثر وأشد أهمية جاء الرد الذي خرجت به الهيئة العامة للثورة السورية ليؤكد أنه كان على الشيخ الكبير أن يبذل أكثر مما فعل مع الأخوة في الداخل، سواء على المستوى الاحتجاجي الشعبي أو على المستوى العسكري الميداني. فقد قيـّمت الهيئة العامة تطورات ميونيخ بأنها تشكل فرصة إضافية للنظام وتراجعاً ملفتـاً عما طرحته المبادرات السابقة بما فيها إعلان جنيف نفسه... واعتبرتها تعبيراً واضحاً عن مدى العجز والعطالة على مستوى الائتلاف وعلى المستوى العربي والدولي... ورأت أن محصلتها التضحية بالانتصارات وبالشهداء على مذبح يأس المعارضة وانقساماتها وصراعاتها، فهي ابتزاز للشعب السوري...
لا يمكنني أن أتصور درجة الإخفاق التي وصلنا إليها في المعارضة عندما نتصرف دون رجوع إلى الثورة مع ادعائنا دائماً أنها مصدر شرعيتنا.
وهناك بعد آخر: الآن تتناقل وسائل الإعلام التركية أن تركيا تنتقد رأي معاذ حول الحوار مع الأسد و"أداءه" في ميونيخ... الأتراك كحليف استراتيجي كانوا يتوقعون أن يكون هناك تشاور معهم حول "التغير الاستراتيجي" الحاصل. ويبدو أن هذا هو السبب في أن الوزير التركي رفض لقاء المعارضين في ميونيخ... وهناك مؤشرات تدل على خلافات مشابهة مع حلفاء آخرين، فرنسا مثلاً. بالطبع الحلفاء ليسوا هم من يصنع قرارنا ولكن علينا أن تحترمهم وأن نتشاور معهم إذا أردنا منهم أن يبقوا حلفاء لنا.
كان الشيخ معاذ قد نبـّهنا أكثر من مرة إلى وجوب نبذ طرائق العمل البعثية وأنا معه في ذلك ألف مرة، ولعله الآن يدرك وبعد ردود الفعل القوية أن من الممكن للمرء أن يسقط دون أن يدري في شراك العمل السياسي على الأسلوب البعثي الأسدي، أي العمل وكأنك "تملك" المجموعة أو القضية أو الدولة التي يفترض أنك تمثلها. نعم نحن بحاجة إلى قيادي قادر على اتخاذ المبادرة ولكن أحداً لا يريد قيادياً يسير لوحده دون تشاور حقيقي. التشاور ليس لمجرد الإشراك بل هو أيضاً لإثراء العمل وخلق كتلة متراصة حول الموقف المتفق عليه فهو يخلق قوة. وبالطبع ليس مقبولاً أن يردد القيادي قوله: إما على طريقتي أو سأستقيل فهذا ليس من القيادة بشيء. لقد أصبح أسلوب الإملاء هذا عتيقاً عفا عنه الزمن ولا يمكن أن نتوسل فيه أن يكون مجدياً في بيئة ثورية يقودها شباب رفضوا، في جملة ما رفضوه، الشمولية والهيمنة الأبوية الأسدية. كلنا نعرف ذلك ولكننا لا نزال نقع فيه.
بيد أني لا ألوم الشيخ الكبير على الأسلوب الذي انساق إليه في غفلة عن العقلانية التي عهدناها فيه، فقد تربى عليه أكثر من نصف قرن، مثل الكثيرين منا، وما كان لدى بيئته الدينية أن تمنعه من التورط فيه من حيث الشكل وإن نجحت في حمايته من الوقوع فيه من حيث المضمون. إننا نعي أن بيننا من يطالب بالديمقراطية دون أن يأخذ بها فعلاً في عمله ضد الاستبداد. ولهذا بالذات فإن كثيراً منا يبذل جهداً إضافياً واعياً للتخلص من تأثير ذلك الإرث التربوي التاريخي.
على أني لا أريد أن أتابع في هذا الاتجاه الذي انسقت إليه غصباً، فلنعد إلى موضوعنا.
3
ما المطلوب الآن؟ وهل نأخذ بالحوار مع "ممثلي" النظام؟
من حيث الشكل: هناك حاجة الآن إلى تحرك ثلاثي جبار ضمن صفوف المعارضة ومع الثورة ومع الحلفاء يعيد للائتلاف بعض المصداقية. ولن أصف للقياديين كيف يمكنهم أن يرأبوا الصدع وأن يستعيدوا الثقة فهم أقدر مني على رسم المسار، ولكن معظمنا يريد من الشيخ الكبير أن يبقى على رأس الائتلاف وأن يقود هو هذه العملية.
أما من حيث المضمون فأود أولاً أن أشير إلى ما أسمعنا إياه كثيرون في الآونة الأخيرة، ولا سيما من الروس والإيرانيين (وهما لا يزالان العدو الأول – لم يتغير أي شيء)، من أن الدبلوماسية هي استمرار للحرب وإن بأشكال أخرى... كل الحروب تنتهي بالتصالح، كما يقولون... على أني لا أتـفق تماماً مع هذا الرأي: الحروب التي يتحدثون عنها هي تلك التي لا يتحقق فيها انتصار كامل لصالح أحد الطرفين. هذه الحروب تنتهي بالحوار بينهما وباستعدادهما معاً للتوصل إلى حل وسط لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. السؤال الذي أطرحه هو التالي: هل وصلت الثورة إلى قناعة تقضي بأنها لن تنتصر وأن عليها أن تدخل في حوار للتوصل إلى حل وسط؟ أعتقد جازماً بغير ذلك.
نعم، لن أكون مع الحوار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلا إذا وصلت ثورتنا إلى قناعة من هذا القبيل. أما أن نقول إننا سنتحاور مع النظام على طرق إزالته، فهذا محض هراء لا طعم له لأن الطرف الآخر لن يتفاوض معك على سبل القضاء عليه، بل سيدخلك في متاهات من الخبث والتقية والعنجهية ليتمكن منك بعدها كما فعل مع جميع من فاوضه من سوريين وعرب وغربيين خلال نصف قرن. لقد وجد النظام في "المبادرة" فرصة إضافية للقضاء على الثورة والمعارضة أو النيل منهما، وما تصريحات من يسمونه "وزير المصالحة الوطنية" في معرض الرد على الشيخ معاذ إلا خطوة آولى في هذا الاتجاه. ولعلنا سنشهد في هذه المرحلة المقبلة مزيداً من الجـزرات التي سيضعها النظام أمام عربة المعارضة وهي جـزرات لا بد أن تحمل معها عصا القتل والتشريد ضد الشعب السوري لكي يتضاعف تأثيرها على معنويات بعضنا الكسيرة. كنا نسأل كم بلغ عدد الشهداء نتيجة للمبادرة العربية ثم سألنا ما عددهم نتيجة لمبادرة كوفي عنان... هل سنسأل الآن ما عدد الشهداء الذين سيسقطون منذ بدء مبادرتنا الأخيرة؟؟؟ إن نوايانا الحسنة لم ولن تـنقذ روحاً واحدة، وبرغمها سقط خلال الأيام الخمسة الماضية أكثر من 600 شهيد ونزح أكثر من عشرة آلاف شخص...
برغم الآلام الكبرى والعدد الهائل من الشهداء والمصابين واللاجئين والمهجرين والنازحين وبرغم الدمار الهائل الذي أنزله النظام بعمارنا ومؤسساتنا ووجودنا كله، أعتقد أن القناعة المتأصلة لدى الثوار لا تزال هي القناعة بأن النصر قادم لا محالة وهم يرفضون التنازل ولو عن شبر واحد من أرضية الحرية والكرامة التي أنجزوها بذراعهم.
ويشكك البعض فيما إذا كان بمقدورنا نحن أن نعرف ما إذا كان الثوار قد بلغوا هذه القناعة أم تلك. لهؤلاء أقول: علينا أن تثق بالثوار إذا أردنا منهم أن يثقوا بنا. فهم سيجدون الطريق لإيصال رسالتهم بصوت عال إلينا بل وللعالم كله وهو ما فعلوه وما يفعلونه منذ بداية الثورة.
حذار أن نضع أنفسنا فوق الثورة. حذار أن نقرر باسم الثوار ما لا يمكننا أن نأخذه منهم أو أن نفرضه عليهم. هم أصحاب القرار وسيـبـلغوننا بقرارهم عندما يتخذونه. أما نحن؟ أصلاً من نحن بدونهم!
كيف نقرأ ما حدث وما الذي نريده من الشيخ الكبير معاذ... سمير الشيشكلي

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية