حصلت "زمان الوصل" على شهادة "قاتمة حول "مدرسة المشاة" في حلب والتي سيطر عليها الجيش الحر منذ فترة... الشهادة أدلى بها ضابط مجند عايش الموت والجوع والبؤس...
بقلم: إياد عياش
كنا قد تعهّدنا عدم الخوض بالسياسة في تلك الأمسية. لكن وكما هو الحال منذ انطلاق الثورة، يتحول الشأن السوري إلى ضيف كليّ الحضور ويدخل في تلابيب كل حديث. هذه المرة كانت مختلفة، فالسؤال شخصيٌ، ويشكل امتحاناً لذاكرتي، وتحدياً لستُ سعيداً بأن ينتهي لصالحي كونه يعني إعادة اكتشاف العدمية التي عشتها لستة أشهر وأبعاد المأساة السورية. احتدم النقاش كالعادة وفجأة ضرب السؤال كصاعقة دون غيوم أنذرت بقدومها: "لماذا الهجوم على مدرسة المشاة في حلب؟ أليست منشأة تعليمية؟".
لم يكن السائل يعرف أنني أمضيتُ في هذه "المنشأة التعليمية" ستة أشهر بالتمام والكمال انتهت بنجمة على كتفي الأيسر ومثلها على الأيمن لأصبح ملازماً مجنداً في الجيش العربي السوري.
تطلب الأمر مني، بعد طرح السؤال، دقيقة أو اثنتين فقط عصفت خلاها بذهني ذكريات عام 2007 وصور لزملاء وشخوص أعدتُ معها وبها اكتشاف مدى تفسّخ الواقع الذي كنا نعيشه والوجه الأكثر قتامة لمؤسسة من المنطقي أن تجمع خيرة شباب الوطن على خدمته، كانت كل الذكريات مرتبة وكأنها حضّرت نفسها على مدى الأعوام الخمسة الماضية لهذه اللحظة، لم أجد أية صعوبة في نبش الأبواب الخلفية، كان كل شيء جاهزاً لسرد الحكاية.
بدأت مسيرتي مع الدورة(231 طلاب ضباط ) في مدرسة المشاة في حلب في الأسبوع الأول من مايو/أيار 2007. وكوني طالباً ضابطاً، أي من النخبة، يُسمح بالالتحاق الإفرادي بالمنشأة دون الحاجة للمبيت عدة أيام في النبك ومن ثم النقل، كالخراف تماماً، على ظهر شاحنة على الأغلب، إلى القطعات العسكرية المختلفة.
مرّ سرفيس المسلمية أمام سجن حلب المركزي. نظرتُ إلى نوافذ السجن وبدا لي المشهد غاية في السريالية والقتامة. أذكر تلك اللحظة جيداً لأن ذلك كان آخر مبنى فعلي يُذكّر بالحياة المدنية وقع عليه نظري قبل الوصول إلى المكان الذي سأعيش فيه نصف سنة: مدرسة المشاة.
أول سؤال وجهه لي العنصر بلهجته الديرية المحببة الذي يحرس مدخل المدرسة: "من وين الشب؟". لم يسألني حتى عن اسمي أو بطاقة الالتحاق أو عما يوجد في حقيبتي. سارعته بالإجابة، فما كان منه سوى مناداة زميله "تعا، واحد بلّودك!". كانت ذلك أول وجه للهوية الجديدة التي ستأخذها شخصيتي من الآن فصاعداً. فالمدينة وحتى المنطقة داخل المدينة لها حساب في تكوين العلاقات مع الزملاء وكذلك مع الضباط.
تم تقسيمنا على الغرف: ستة كل غرفة وتسليمنا عدة النوم واللباس وما إلى ذلك. فرش تخرج من الغرف المخزنة فيها فئران صغيرة، لتبدأ مع ذلك حياة يمكن تلخصيها بأنها "حياة التفقد". لا أبالغ في القول إن عمليات التفقد كانت تجري بوتيرة "دقائقية" (أي دقائق تفصل بين التفقد والآخر). وهذا يعني أنه لا يقلّ عن أربعين تفقداً في اليوم، واستمر الحال على هذه الشاكلة طيلة الشهرين الأولين ومن ثم أصبح يتم الاكتفاء بعشرين تفقداً ربما.
طعام وجوع
الصدمة الأولى كانت الطعام. يتم جمع الطلاب الضباط أمام المطعم القذر حيث النوافذ تخلو من الزجاج وحيث يمكننا مشاهدة القطط وهي خارجة من الباب والنوافذ عند سماعها وقع أقدامنا بعد أن تترك ما تيسّر من فضلاتها على الطاولات التي سنستخدمها للأكل. تجربة الطعام كلها حيوانية بكل ما للكلمة من معنى. الدخول من باب واحد للدورة التي يزيد عدد طلابها عن 850 عبر النهر والشتائم. كل طاولة يقف حولها 16 طالباً يجب أن يتناولوا طعامهم في غضون خمس دقائق. المشكلة الأساسية، لم تكن مدى قذارة ما نتناوله، بل تمثلت بكمية الطعام الذي بالكاد يمكن أن يسدّ الرمق. رغيف خبز وبيضة صباحاً، أو رغيف خبز وصحن لبنة لكل ثمانية أشخاص (وزن اللبنة فيه لا يزيد عن ثلاثمئة غرام) وكأس شاي. يُفترض بهذا أن يكون كافياً لشخص يزيد عمره عن عشرين عاماً أتم لتوّه الرياضة الصباحية ولن يأكل أي شيء حتى موعد الغداء. أذكر أنه في أحد الأيام الأولى كانت وجبة الفطور هي عبارة عن حلاوة. وعندما "رشق" ضابط المطعم قطعة الحلاوة (تزن ربما مئتي غرام) أمام زميل لنا، قال ببراءة "سيدي، هاي كبيرة عليي" أتى الرد سريعاً بعد ضحكة ساخرة "هاي مو إلك ولاه، هاي لإلكون إنتو السطعش!". يكفي هذه المؤسسة التعليمية أن الحصة الغذائية المخصصة لـ16 فرداً يمكن أن يعتبرها أحدهم مخصصة لشخص واحد. هذا الأمر وحده يكشف حجم المأساة التي تنتظر كل من قادته الأقدار إلى مدرسة المشاة وأخواتها.
ومن أجل التاريخ، يتعيّن عليّ أن ذكر أن من جملة ما علمتني إياه هذه "المنشأة التعليمية" هو تهريب الزعتر في علب الشامبو وتناوله مع ما تيسّر لنا سرقته من الخبز من "المطعم" بعد تغميسه بالماء (ولاحقاً بزيت الزيتون، عندما بدأت الرشاوى وإمكان إدخال المهربات الغذائية عند العودة من الإجازة الأسبوعية). سيشهد التاريخ لمدرسة المشاة أن الكثيرين من "روّادها" ناموا جياعاً ليس لأنهم اعتادوا على طعام الوالدة في المنزل ورفضوا خشونة حياة العسكرية، بل لأنه ببساطة لا يوجد طعام ولا يتيسّر لهم الشراء من الخارج أو من بقالية المنشأة. وسيذكر أيضاً كيف كنّا ننتظر الزيارات الأسبوعية لتناول الطعام ومحاولة تهريب أكبر قدر ممكن من المواد الغذائية بعد الزيارات لتجنب الجوع ليلاً.
سيشهد التاريخ لهذه المنشأة التعليمية أن أربعة مراحيض هي الوحيدة التي تعمل في بناء من طابقين يقطنه حوالي 850 طالب ضابط، ويمكن تخيل حجم المأساة الصباحية! كثيرون كانوا يستيقظون في الرابعة صباحاً لدخول الحمام وتجنب الطابور الصباحي الذي لا بد وأن ينتهي بخناقة بين طلاب جامعيين على أحقية استخدام المرحاض.
المطالعة
هي ربما الفترة الأكثر عدمية في تاريخ الجيش العربي السوري. حوالي أربع ساعات بعد الظهر يتم حشرنا خلالها داخل صف يتّسع في الأحوال العادية لنصف العدد الموجود فيه. المدهش أن الجلوس فيه على مقاعد هي نفسها تلك المكرسة لطلاب المدارس الإعدادية والثانوية. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن إدخال الكتب، بما فيها الكتب الدراسية الجامعية لمن لم يتخرج، إلى "المنشأة التعليمية" غير مسموح على الإطلاق، فإن هذه الساعات التي كانت تمضي بطيئة جداً تتحول إلى جلسات نوم ومن ثم لعب بورق الشدة في مرحلة لاحقة. في هذا الوقت كان بعض الطلاب الضباط يدرّسون أبناء الضباط الذين يُسمح بإدخالهم إلى المنشأة في خرق لأبسط الإجراءات الأمنية التي يمكن تطبيقها على مكان خاضع للقوانين العسكرية.
وفاة ومأساة مضاعفة
يوم أسود عاشته الدورة 231 طلاب ضباط بوفاة أحد الطلاب خلال حصة التدريب البدني الصباحية نتيجة إجهاد طبيعي وتبين بعد الوفاة أنه تعرض لتوقف مفاجئ في عضلة القلب أدت للوفاة. الصدمة كانت كبيرة بطبيعة الحال وهو خريج الصحافة الشاب المليء حيوية وشباباً وقد خطفه الموت بلمح البصر. صحيحٌ أن الوفاة بحد ذاتها كانت خسارة مؤلمة ولم يتسبب بها ـ بشكل مباشر على الأقل ـ أي من الضباط، إلا أن ما رافق عميلة إسعافه شكل مأساة أخرى. تم بطبيعة الحال حمل الطالب بالأيدي دون توفر حمّالة إلى المستوصف وهناك لم يكن أمام الطبيب الملازم المجند أيّ خيار في التعامل مع توقف لعضلة القلب وأتى القرار السريع بنقله إلى أقرب مستشفى وهنا كانت المصيبة. تم وضعه على أرض سيارة إسعاف عسكرية ليس بها سرير بعد وضع شرشف على حديد السيارة التي يعود تاريخها لحرب تشرين على الأقل وتفتقر لأبسط مقومات سيارة عادية، فما بالكم بسيارة إسعاف. وهي توصف بأنها سيارة إسعاف فقط لكونها تنقل المرضى على كراسي حديدية ملحومة في قسمها الخلفي إلى المستشفى العسكري وكثيراً ما تتعطل يومياً أثناء الرحلة من مدرسة المشاة إلى المستشفى العسكري في حلب. المدهش أن الشغل الشاغل لضباط مدرسة المشاة على مدى اليومين التاليين تحول إلى تفنيد الروايات التي تتحدث عن طريقة الإسعاف بعد البلبلة التي أحدثها كلام زملائنا ممن حملوه إلى المستوصف ومن ثم لسيارة الإسعاف، في الوقت الذي استخدم مثلاً أحد ضباط الدورة عدداً من الطلاب لتجديد عفش سيارته الخاصة لتكون هذه واحدة من عمليات الرشوة المتفشية والتي كان يعرفها القاصي والداني. أما أنواع الرشى التي كان يحصل عليها الضباط فتتراوح بحسب رتبة وأهمية الضابط، من جلب كل ما يحتاجه من مواد غذائية لأسبوع، وصولاً إلى قسائم بنزين وكاميرات واستئجار سيارات ومشروبات روحية وهدايا عينية أخرى وصولاً إلى "هدايا" نقدية.
روتين قاتل
مضت الأيام وعقرب الثواني يتحرك والزمن يدور والوقت يُقتل ألف مرة. انتهت الدورة وأصبحتُ ضابطاً وحملت نجمة على كل كتف لتبدأ لعبة أكثر قذارة، فالفساد أصبح بمستوى أعلى ويجب أن أكون جزءاً من لعبة الطرابيش كي لا أهدر عاماً ونصف آخراً من العدم.
لم أندم على الإطلاق بأني أتممتُ خدمتي الإلزامية، ربما ساعدتني بالفعل على فهم أكثر عمقاً لما يجري الآن. ولكن أحزن على مؤسسة عسكرية كانت في الفترة التي أعقبت الاستقلال جامعة لكل ألوان الطيف السوري لتتحول في العقود الأخير إلى أحد أقذر أوكار الفساد والطائفية والعدمية. أحزن على أهالي استدانوا المال ليتمكن أبناؤهم في "العسكرية" من شراء الطعام أثناء خدمتهم الإلزامية. أحزن على شباب تمثلت مكافأتهم يوم تجديد "البيعة" للرئيس السوري بنصف موزة! أحزن على منشأة كان يُفترض بها أن تكون تعليمية وإذ تحولت إلى مؤسسة قاتلة للروح.
كل من مرّ على مدرسة المشاة وأخواتها وحاول النظر إلى مجريات الأمور بعين مجرّدة لأدرك أن دوام الحال من المحال وأن الهيكلية القائمة برمتها غير مستدامة وأن المجتمع الذي يأتي منه ويخرج إليه من مرّ على هذه المؤسسات سينفجر في يوم ما بطريقة بشعة جداً إن لم يتم تحويل الدفة أو بالأحرى تغيير الدفة برمتها.
لا أعرف عدد الذين "حرروا المدرسة" وكانوا من "طلابها" يوماً ما. ولكني أعرف تماماً أن كل من مرّ عليها يدرك ما تمثله تماماً ويعرف حقّ المعرفة حجم التشويه الذي طال مفهوم الوطن وخدمته بين جدرانها وفي ساحاتها وخلف أبواب مكاتبها القذرة. أفهم كل ذلك الغضب الظاهر لدى اقتحام "منشآتنا التعليمية" العسكرية فهي التي كانت مسؤولة عن تخريج مئات الآلاف على مدى السنوات الطويلة الماضية بعد حقنهم بكل ما من شأنه زرع فتيل الشقاق بين أبناء الوطن الواحد وتعميق الهوة بين الإنسان الكامن في قلب كل منا وبين الأقانيم الثلاثة التي يقوم عليها الجيش السوري ويتخذها شعاراً له: وطن شرف إخلاص.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية