يصنع السوريون التاريخ اليوم .. هناك عدة طرق لصنع التاريخ ، أو لدخول التاريخ ، أن تدخله كجنكيز خان كما يفعل بشار الأسد ، أو أن تدخله كسبارتاكوس ، كعبد تحدى قدره و مصيره ، كعبد عاش حرا و مات حرا بحد السيف .. كأية ثورة شعبية في التاريخ أنتجت الثورة السورية أبطالها ، الذين لا يطلون على الفضائيات و لا تعرفهم فنادق استانبول و القاهرة ، لا نسمع ضجيجهم و لا نراهم و هم يصنعون الحاضر إلا لماما مما تسمح به وسائل إعلام السادة أو من مشاركاتهم المتواضعة جدا في هذا الصخب .. من هؤلاء كان لي حظ التعرف عن قرب على أحدهم : القائد الميداني أبو حاتم .. منذ اللحظات الأولى من لقائي بأبو حاتم كان أول ما خطر لي هو الشبه الهائل بينه و بين زاباتا الثائر المكسيكي أو نستور ماخنو قائد الأنصار الأوكرانيين ، رجال جاؤوا من أسفل الهرم الاجتماعي ، تسيسوا وسط ثورات شعبية عارمة ، واجهوا الطغيان بالسلاح ، و انتهوا بأن أصبحوا أبطال الثورة ، أيقوناتها الحقيقية .. صحيح أنهم بدؤوا نضالهم أو تاريخهم كثوار ،"بقيادة ،" الجماهير بشكل لا سلطوي أو غير فوقي ، لكن ظهرت عليهم لاحقا ملامح سلطوية صريحة و أحيانا بونابرتية .. أذكر تماما أن تلك المقارنة كانت في بالي بينما كنت أعالج أبو حاتم من إصابة ، بينما كان مقاتلوه حولنا في حالة حزن و غضب هستيري لإصابته ، حتى نحن المعتادين على تلك الإصابات كان بعضنا يبكي جزعا ، صحيح أن هذا الشعور قد يبدو طبيعيا لحد كبير بالنسبة لمقاتلي مجموعته و حتى لنا نحن ، لكن لا شك أن مثل هذه المظاهر قد ساعدت في تضخيم الأنا عند أبو حاتم و أمثال هؤلاء القادة و إنتاج ميولهم البونابرتية اللاحقة ، نحن أيضا مذنبون بشكل من الأشكال في تحول كثير من هؤلاء الثوار إلى نابليونات ، إلى سادة جدد .. لا أعرف كيف أصبح أبو حاتم قائدا ميدانيا ، لكني أعرف أنه كان دائما في المقدمة ، و أنه تعرض للإصابة مرارا بسبب ذلك ، و أعرف أيضا أنه بقي ،"نظيفا ،" حسب الوصف الأخلاقي ،"الثوري ،" ، أنه لا يجمع المال و لا يحاول امتلاك بيت أو ثروة كبيرة كما يفعل الكثيرون .. مع أبو حاتم أيضا عرفت قسوة الثورة ، قسوة الموت في الثورة ، عندما عرفت أنه تخلص من بعض جنود جيش الأسد بطرق لا يمكن وصفها إلا بالقاسية ، هذا باستخدام ألطف العبارات .. لم أملك الوقت لأناقش الرجل في هذا ، صحيح أن خمسة من إخوته استشهدوا في الثورة ، و أن السادس أسير في سجون النظام لكني أستطيع أن أؤكد أن الرجل لا يسعى للانتقام ، لكن مع ذلك ربما كانت خسارته الشخصية الهائلة هي التي علمته أن الحياة في حقيقتها قاسية جدا و هي التي دفعته ليصبح قاسيا في عصر القسوة .. كما أن الرجل لم يوجه قسوته تلك ضد العلويين تحديدا ، في الحقيقة كان يوجهها ضد عساكر جيش الأسد دون تمييز .. لا بد هنا من استدراك مهم ، فقد يدفع الكلام السابق للاعتقاد أننا أمام شخص قاسي القلب أو دموي ، لكن أبو حاتم في الواقع ليس إلا إنسان ، و إنسان حقيقي بكل ما تعنيه الكلمة ، لكن في عصر وصل فيه معيار الوحشية في علاقات البشر ببعضهم إلى مستوى هائل .. أكيد أيضا أن أفعال أبو حاتم ليست أكثر قسوة مما مارسه زاباتا أو ماخنو أو حتى سبارتاكوس في أيامهم ، هذا ليس تبريرا للقسوة ، و لا حتى قسوة الجزار يمكن أن تبررها ، بل إن محاولة تبريرها بحد ذاته شيء فظيع ، صحيح أن القبح هو جزء أصيل من هذا الوجود ، لكن مع ذلك لا يمكن تبرير القبح ، إننا نكتشفه فقط لكي نلغيه ، أن نبقى قبيحين عن وعي و تصميم كاملين ، هذه بحد ذاته هو الجريمة الكاملة ، و القسوة الأشنع على الإطلاق .. لا أجمل و لا أسمى من أن تعيش حرا ، لكن المشكلة هي في هذا العالم نفسه الذي يفرض عليك أن تقاتل كل لحظة لتنتزع حريتك و تحتفظ بها .. قسوة الثورة لا يمكن أن تكون إدانة للثورة ، إنها إدانة لهذا العالم ، خاصة للواقع و للنظام الذي تثور في وجهه ، و إعادة إحياء لحلم أن يعيش البشر أخيرا دون عنف أو إكراه أو سجون أو حرس .. أيضا لم يسعفني الوقت لأعرف من أبو حاتم أين بدأت ثورته و أين يرى أنها ستنتهي .. نعرف أن زاباتا بدأ مقاتلا في جيش ماديرو الثائر ضد الطاغية دياز ، لكن عندما سقط دياز و تولى ماديرو السلطة و بعد أن خاب أمل زاباتا في الرئيس الجديد قرر مواصلة الصراع ضد قائده السابق .. يذكر التاريخ أنه عندما طلب ماديرو من زاباتا إلقاء سلاحه رد الأخير بأنه إن لم يحصل الناس على حقوقهم اليوم و هم مسلحين فإنهم لن يحصلوا عليها أبدا خاصة إن ألقوا سلاحهم ، لكن مصير زاباتا يشبه مصير معظم الثوار الذين سبقوه ، و من سيأتون بعده أيضا ، فهاهو ذا يسقط أخيرا في صراعه ضد السلطة مدافعا حتى آخر نفس عن حلمه بأن يتملك الفلاحين أرضهم ذات يوم ، لكنه يموت فقط ليحيا من جديد مع ثورة أخرى للفلاحين المكسيكيين من السكان الأصليين عندما أخذ الثوار الجدد اسمهم و هدفهم و حلمهم من زاباتا ، فولد جيش الزاباتيستا للتحرر الوطني عام 1994 .. أين ستتوقف ،"ثورة ،" أبو حاتم و كثيرون من أمثاله في الثورة السورية ، هل سيستمرون بحمل السلاح إذا لم تتمكن ،"السلطة ،" القادمة من الوفاء بأحلامهم ، تلك السلطة التي لا شك أن قادته المباشرين اليوم سيكونون من بينها بشكل أو بآخر ؟ مرة أخرى يصعب جدا الجواب على هذا السؤال .. لقد بكيت فعلا و أنا أعانق أبو حاتم مودعا ، كنت أضم سوريا التي أحببتها ، سوريا التي تناضل من أجل حريتها ، المغمسة بالدم و الحب و الكراهية ، بالأمل و بالتعب و بكل تأكيد ، بالحرية .. قبل قرون لم يكن الجنرال الماركيز لافييت و لا الامبراطور نابليون هم الأبطال الحقيقيون للثورة الفرنسية ، بل تلك الآلاف التي اقتحمت الباستيل و نكلت بالنبلاء و أفراد العائلة الحاكمة و دافعت عن جمهوريتها ، آلاف ممن انتزعوا حريتهم بدمائهم و دافعوا عنها بدمائهم و ماتوا أحرارا في ساحات الوغى يحلمون بيوم يكون فيه كل قاطني هذه الأرض من الأحرار فقط ، نحن لا نعرف أسماءهم ، لم يحفظها لنا التاريخ كما حفظ أسماء الوزراء أو النبلاء أو كبار الكهنوت أو السياسيين ، لم تقدسهم السلطات ،"الثورية ،" و لا ،"الكنائس الثورية ،" ، و لم تمنحهم تيجان الأباطرة و لا حتى أكاليل الغار ، لم تتجاوز مكافأتهم سويعات من الحرية قضوها و هم يحاربون كل طامع باستعبادهم و مكان ما في ذاكرة و ضمير كل المضطهدين و المقهورين عبر العصور .. لقد وقعت ثورة عظيمة هناك ، و كان هؤلاء هم الثوار الحقيقيون ، في سوريا كان هناك أبو فرات و أبو حاتم.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية