الطائفية ليست بنت الثورة، هي بنت حافظ الأسد. الثورة كشفت عورات النظام وسمحت للسوريين وغيرهم بالكلام، فتكلم الجميع دفعة واحدة، وعن كل ما كان يُمنع الحديث فيه. ولاستكمال القصة يجب القول إن مجتمعنا هو مجتمع طوائف وأديان ومِلل وأقوام، وإن ثقافتنا مليئة بالطائفية، نكتة وتلميحاً وتصريحاً، قبل الأسد، نتيجة الجهل وعدم التواصل وانتشار الخرافات بين الطوائف. ربما الشيء الذي أضافه حافظ الأسد ونظامه للطائفية، أنه رباها في قفص حديدي إلى أن أصبح لها عضلات وأنياب وأظافر، حتى جاء وقت المصارعة على طريقة الرومان، ففتح باب القفص وأطلق وحشه الطائفي على الناس العزل.
هذه بعض الشهادات والذكريات التي أعرفها شخصياً، وأنا متأكد أن كل سوري عنده العشرات منها. أكتبها لإخراجها من ظلمة الكهوف إلى نور المعرفة، حيث من السهل بعدها إيجاد الحلول لأزمة أراد النظام القاتل قتلنا بها.
١-
في سنة ١٩٦٠، قررتُ أن لا أذهب مع أبي إلى دمشق بعد أن تم نقله كشرطي من حماه، وخسرت امتيازي كابن شرطي المرور، الذي كان يقف على تقاطع طلعة الدباغة، مقابل سينما الشرق، وكانت إشارة منه للحارس الذي يقف على باب السينما تكفي كي أدخل السينما مجاناً. إذاً قررتُ الذهاب إلى القرية كي أكمل الصف الخامس فيها، فهناك جدتي لوحدها، ولن تستطيع ضبطي، وسأعيش حراً، وهذا ما كان.
جاء الربيع، وللربيع نكهته الخاصة في جبال العلويين، ففيه تتغير الطبيعة والإنسان والحيوانات، ومن هذه المتغيرات أنني قررت مع عصابتي المكونة من ثلاثة أصدقاء أن نزور أخي المعلم الوكيل في قرية (عوج)، وبين (حزور)، وهو اسم قريتي، وقرية عوج العديد من الجبال والوديان التي يجب تجاوزها، والكثير من الطرقات الجبلية المتعرجة الممتدة من قمم الجبال إلى زواريب الضيع التي يجب المرور بها، والتحايل على كلاب الحراسة الشاردة، والاشتباك معها إذا اقتضت ضرورات الدفاع عن النفس أو ولدنات الطفولة. وقبل التحرك في مغامرتنا الطفولية، سألنا الأعمر والأكثر خبرة عن الطريق إلى عوج، فقالوا: شفتوا من أين تشرق الشمس، اذهبوا في هذا الاتجاه، أمامكم عدة جبال للصعود يعقبها العدد نفسه من الوديان، ألى أن تصلوا، وإذا ضعتم فاسألوا الناس عن عوج. كان مجموعة من الشباب يقرعون جرس الكنيسة عندما علموا أننا، نحن ابناء الحادية عشر من العمر في طريقنا إلى عوج التي تبعد عشرات الكيومترات، فتجمعوا حولنا وحذرونا من القرى العلوية والتركمانية التي قد نمر بها، ومن مغبة الأكل عند العلويين أو النوم عند التركمان، والحذر من الموارنة، ومن الأفضل الاستمرار بالسير حتى نصل إلى مقصدنا. وصلنا مع بداية المساء إلى عوج، وهناك تعرفت للمرة الأولى على معلم وكيل ( بيحكي شعر) كان هو ممدوح عدوان، الذي بقي يضحك ويضحك ويضحك وأنا أروي له ولأخي كيف حذرونا من العلويين وعظمهم الأزرق، وعدم النوم عن التركمان.
كانت هذه تجربتي الأولى مع الطوائف، ستعقبها تجارب.
٢-
وتشنيع الطوائف على بعضها البعض، كان منتشراً بين أتباع الأديان وبين طوائف الدين الواحد، ومنها مثلاً ما كان بين الروم والموارنة. (حزور) قرية، سكانها من الروم الأرثوذكس، وهي تبعد عن (عين حلاقيم) المارونية بحدود ثلاث كيلومترات. ولما كان توقيت عيد الفصح الشرقي يختلف عن توقيته الغربي كان المسيحيون سعيدين بصلب المسيح مرتين، مرة على الطريقة الغربية ومرة على الطريقة الشرقية، ولم يكونوا مهتمين بكمية الدم الذي سينزفها المسيح ولا بالعذابات التي يعانيها السيد في تعرضه للصلب مرتين، كل ما كان يهمُّ روم (حزور) وموارنة (عين حلاقيم) أن اختلاف العيدين يعني أن هذا سيقدم لهم إمكانية أن يلعبوا القمار بالبيض المسلوق ضد بعضهم البعض مرة على بيادر (حزور) ومرة ثانية على بيادر (عين حلاقيم)، قبل أن تشجع سلطة البعث الناس على فتح بيوت القمار أو بيوت القمار والتعريص معاً. ولا أزال أذكر، وأنا طفل، حواراً جرى في ساحة كنيسة مار جرجس في (حزور) بين اثنين من الموارنة، أحدهما أكبر في العمر من الآخر، عندما وجه الكبير حديثة إلى الآخر قائلاً: إذا سقطت منك هنا، أمام هذه الكنيسة، ليرة من الذهب فلا يجب أن تنحني لالتقاطها. قال له الآخر: لماذا؟ قال الكبير الفهمان: لأنك إذا فعلت هذا فكأنك انحنيت لكنسية الروم، وهذا حرام. وكان من المعروف والشائع القول بين الموارنة:"مسلماني ولا روماني". لذلك عندما اضطر أحد الموارنة أن يطلّق زوجته المريضة، لم يخطر على باله أن يتحول إلى الروم وإنما تحول إلى الإسلام، ثم طلّق زوجته وتزوج أخرى.
٣-
في العام الدراسي ١٩٦٨-١٩٦٩ كنت في الصف الرابع دار معلمين، وسنة أولى أدب عربي، وكنت فخوراً بنفسي لأنني نلت الثانوية وأنا في دار المعلمين، واشتريت كتب الجامعة وبدأت أتصفحها. في أحد الأيام وأنا اقرأ اكتشفت للمرة الأولى أن اسم معاوية يعني الكلب ففرحت باكتشافي، وفي الصباح دخلت إلى الصف وكتبت هذه المعلومة على السبورة. دخل مدرس اللغة العربية، الأستاذ الكبير محمود فاخوري الصف وقرأ ما كتبته، فأربد وجهه وسأل غاضباً عن الشخص الذي كتب الكلمة، فقلت له إنني من فعل ذلك، وقد وجدتها في كتاب الأدب، أو في شرح إحدى القصائد، لا أذكر الآن، فأمرني حانقاً أن أمسح الكلام. في اليوم التالي زرته في بيته مستفسراً عن سبب غضبه، فقال: عرفت أنك لا تقصد سوءاً، وإنما هو نوع من الاستعراض الثقافي بالنسبة لك، ولكن بالنسبة لي، كان الأمر قد تكرر عدة مرات منذ ١٩٦٥، بأشكال متعددة، فقد كان نوعاً من الإهانة الطائفية المقصودة الموجهة من البعثيين إلى المدرسين السنة غير البعثيين، لذلك لا تؤاخذني يا ابني على ما صدر مني بحقك. وقتها عرفت أن أزمة ما كبيرة تدور رحاها بصمت في المجتمع.
٤-
العام الدراسي ١٩٦٩-١٩٧٠ تم نقلي كمعلم جديد من قرية (مكحلة)في حلب إلى قرية (المعبطلي)الكردية في عفرين، ووقتها علمت للمرة الأولى أن هناك أكراداً علويين، فلقد كان سكان (المعبطلي) علويين، وأذكر أن انقلاب حافظ الأسد حدث وأنا هناك، وأن الشاب عبد القادر قد قال لي إن جماعتهم وصلوا إلى الحكم. وعندما سألت كيف أن جماعتهم؟! قال كلنا نتبع المذهب الجعفري.
ليس هذا موضوعنا، وإنما ما قاله لي المعلم الوكيل عبد الرحمن. كان عبد الرحمن قد نال الثانويةالعامة هذا العام وعمل كمعلم وكيل نتيجة الحاجة المادية، وكان قادماً من بلدة الباب. كنت عازباً وكان هو كذلك، بينما البقية من المعلمين كانوا متزوجين، مما أتاح لنا أن نكون صديقين نلتقي يومياً ونسهر أغلب الأحيان معاً. بعد مرور عدة أشهر، قال عبد الرحمن: عندي سؤال شاغل بالي وأخاف أن سألك: قلت له: قل يا رجل، كلنا إسلام، وما في حدا غريب. فضحك حتى استلقى على قفاه وهو يردد: قلتلي كلنا إسلام.....وتابع بعدها: يجب أن تعرف أنني قبل أن أتعرّف عليك، لم ألتقِ بمسيحي أبداً، وأن جماعتنا في الباب يقولون حتى الآن إن المسيحي، ناعم وأشقر وجبان، وفيك "تناولو كف على نقرته، وامتا ما بدك فيك تروح على العزيزية بحلب وتشوف هدول الناس". سؤالي: هل صحيح أن المسيحي عندما يعقد قرانه في الكنيسة يحق للخوري أن ينام مع العروس قبل العريس؟ شرحت لعبد الرحمن أن هذا الكلام جنون حقيقي، ومن يروي هذه القصص لا يعرف شيئاً عن المسيحيين ولم ير في حياته زواجاً مسيحياً، ولا يعرف شخصاً مسيحياً. لقد مضى على تعارفنا عدة أشهز يا صديقي، فماذا تظن بي أنا المسيحي الذي أمامك؟ قال عبد الرحمن: أشهد بالله انك (أرذل) من أولاد الإسلام. ضحكنا وكان ضحكنا خليطا مسيحياً- إسلامياً.
٥-
في عام ١٩٧٤، كنت قد أصبحت معلماً (قد الدنيا) في حمص، وكنت ناشطاً سياسياً سرياً ضد حافظ الأسد، ومشاركاً في كل النشاطات الثقافية في مدينة حمص، وعاشقاً نظرياً لكل صبايا حمص، ومغازلاً لا يُشق له غبار، يعني كنت زلمة حكي بحكي مثل معارضتنا الآن. أحد الأيام جاء الشاعر الكبير علي الجندي لإحياء أمسية شعرية في نقابة المعلمين، بعد الأمسية، حققت نصري الأول على (البرجوازية الحمصية)، وكان في تقييمنا، نحن البعثيين الريفيين، أن كل حمصي هو برجوازي حتى لو كان ميتاً من الجوع، المهم أنني دعوت علي لقضاء السهرة عندي، في غرفتي الطينية، فوافق، معتذراً عن تلبية دعوات الآخرين. كان في السهرة أكثر من عشرين شاعراً ومثقفاً وممثلاً حمصياً. وكان من الحضور فرحان بلبل وأعضاء فرقته المسرحية والشاعر مصطفى خضر والشاعر محمد الفهد، الذي كان يجلس قرب علي الجندي. للعلم فقط، محمد الفهد سني الأب، علوي الأم، مسيحي الزوجة. وعلي الجندي اسماعيلي الأصل من السلمية. قال محمد الفهد لعلي الجندي: أستاذ علي، يقال إن الاسماعيليين يعبدون فرج المرأة، هل هذا الكلام صحيح؟ ردّ المرحوم علي، وكان معروفاً عنه خفة الروح: يا صديقي، أما عن الاسماعيلية فلا عرف، ولكن بالنسبة لي: "أي والله".
وفي العام نفسه اعترف لي أحد الاصدقاء، وهو علوي من قرية قرب الدريكيش أنه قبل عامين عندما جاء إلى الجامعة نزل في بيت خاله في حمص، وكان ابن خاله صديقي الحميم. أحد الأيام سأل زوجة خاله عن ابنها فقالت له: أعتقد أنه سينام عند ميخائيل. قال لي لم أستطع أن أصدق أن ابن خالي العلوي عنده الجرأة للنوم عند مسيحي، وكان عمري بحدود العشرين.
٦-
في العالم ١٩٨٤، اذا لم أكن مخطئا، بعد انسحاب اسرائيل من بيروت، كنت في بيروت فالتقيت هناك مع صديق علوي يعمل مثلي في توزيع الكتاب في سوريا ومع ناشر آخر سني دمشقي تربطني به معرفة عمل. التقينا جميعا في دار نشر، كانت قد فتحت حديثاً وتهتم بنشر الفكر الشيعي بالإضافة لبعض الموضوعات الأخرى السياسية والفكرية والأدبية، ولأن كتب الدار غير مهمة شعبياً وتسويقها ضعيف، فقد كان السيد صاحب الدار لطيفاً وكريماً ومتسامحاً مع الموزعين أمثالنا، بالإضافة إلى طباعه السمحة حقاً. المهم أن الرجل دعانا جميعاً إلى العشاء في بيته، وكانت هذه الشقة مخصصة للضيوف. أكلنا أطيب المازات اللبنانية، وهي بالمناسبة، نفس المازات عند الشيعة وعند السنة وعند المسيحيين والدروز، وأحيانا أستغرب، لماذا اللبنانيون يختلفون سياسياً ما دامت مازاتهم واحدة وبحرهم واحد وكل ماروني فيهم يحلم أن يكون رئيس جمهورية، وكل سني يعتقد أن رئاسة مجلس الوزراء قليلة عليه، وكل شيعي يعتقد أنه مظلوم وأن مجلس النواب هو معبره نحو دولة الممانعة، أما عن الدروز فحدث ولا حرج عن ضياع موقعهم التاريخي بين الرئاسات الثلاث. المهم أن العناصر المشتركة بين اللبنانيين الأشقاء كثيرة، لدرجة تشكر الله كسوري، أن عناصر الخلاف بين السوريين قد تكون أكثر مما هي عند جيراننا.
بعد العشاء، وتناول الحلويات وشرب الشاي جرى حديث ديني بين صديقي العلوي والسيد (الشيخ) الشيعي،عن المذاهب الإسلامية. أنا والناشر السني كنا مستمعين فقط، فجأة طرح الصديق العلوي سؤالاً محرجاً على الشيخ، قائلا: هل نحن العلويين اقرب إلى الشيعة من قرب السنة لهم؟ فرد السيد الشيعي بهدوء ومبتسماً: لا يا صاحبي، أنتم بنظرنا لستم مسلمين، بينما خلافنا مع السنة هو على الخلفاء الراشدين، فلا مجال للمقارنة. كان هذا بالنسبة لي اكتشافاً. أمضينا ليلتنا عند الشيخ الشيعي، وفي الصباح كنا سالمين، لم نخسر أي طرف من أطرافنا، ومع ذلك غامرت وسألت الشيخ عن نكتة ش ش ش ش. فقال مبتسماً بعذوبة من تذكر شيئاً ويحن إليه: يحكى أن الجنوبي هو: شيوعي وشيعي وشريب شاي.
٧-
العام الدراسي ٧٣-٧٤ كنت معلماً في تلبيسة. كنا بحدود سبعة عشر معلماً ابتدائياً، أغلبنا يسكن حمص. كان المعلمون من سكان البلدة خمسة أو ستة، وكنا جميعاً نلتقي في الفرص في غرفة المدير أبو سليم الحديد، فهي إدارة وغرفة معلمين في الوقت نفسه.
أحد الأيام كنت أنا المسيحي، أروي قصة تتطلب قولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وما إن أنهيت آخر كلمة في الشهادة حتى وقف معلم من تلبيسة منتصباً على قدميه ومصفقاً بيديه وهو يردد: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. كان جميع المعلمين ينظرون إليه، فقلت له: شو القصة، ما لك يا رجل؟ قال: لقد أسلمت، والله إنك أسلمت، لقد شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قلت له ضاحكاً، وأنا في مكاني، ومشيراً له بيدي: اقعد مكانك، وحاجتك عياط، إذا كان كل المسلمين اللي عندك على شاكلتي، فلا أحسدك عليهم. وعليك يا صاحبي ان تنتبه إلى أن الكلام ببلاش ولا يدل على الإيمان، وأي نصاب يمكنه، بناء على تصرفك الآن، أن يضحك عليك ويجعلك تخلع ملابسك ومالك لمجرد أن يقول لك لا إله إلا الله. بعدين فهمني ناقصكم مسلمين شي؟؟؟؟
٨-
في بيروت عام1982، كان أحد الأصدقاء العلويين المطلوب للمخابرات السورية، والذي كان في سجن حافظ الأسد، يقيم في بيروت، فقرر الخروج مع المقاومة الفلسطينية إلى تونس لأنه لا يستطيع العودة الى سوريا.
بعد تجوال استمر سنتين، توسط له والده عند علي دوبا، الذي كان يعرفه من أيام التلمذة، وعاد إلى سوريا بشرط أن لا يتكلم في السياسة.
سألته عندما زارني في حمص، عن قصة عودته، قال: لم تغفر لي أفكاري اليسارية، ولا سجني عند الأسد، ولا عملي في المقاومة الفلسطينية، لم يغفر لي كل ذلك عند الآخرين كوني من أسرة علوية، وكانت نظرات الشك تحوم حولي دائما، فتعبت يا صديقي ميخائيل، تعبت من الآخرين ومن إرث ثقيل لا ذنب لي فيه إلا أنني ابن لأبوين علويين، فقررت العودة إلى حضن مضطهدي. قد يكون قراري حماقة أخرى في حياتي، ولكن هذا ما حدث.
أنا أشهد أن ما قاله صديقي كان حقيقياً، فدعونا، وثورتنا على أبواب الدخول إلى عالم جديد، أن نفكر بوطننا بطريقة مختلفة قليلاً عما أراد وخطط لنا حافظ الأسد.
لقد أراد لسوريا حرباً طائفية طاحنة في حال سقوطه. دعونا نفوّت عليه هذه الفرصة بوعينا ووحدتنا.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية