أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غزة...أرض العزة- 5 - ... د. ابراهيم حمامي

غزة...أرض العزة

الجزء الخامس..... بين أهلها

يوم جديد في ربوع غزة، الجمعة 01/02/2008، الجمعة الأولى في فلسطين، سأظل أصف وأقول الأول والأولى، لن يكون هناك أخيرة وآخر أبداً، الأول والأولى سيتبعها ثانية وثالثة وعاشرة وألف، لا نهاية لعشق الوطن طالما بقي نفس، بل حتى حينها أدعو وأتمنى أن يضمني ثرى أرض فلسطين المباركة.

 

الماء الساخن جاهز، ما قاله مضيفي مع الفجر، في غياب الكهرباء يكون التسخين يدوياً، وكأيام الطفولة كان غسل الجمعة بـ "الكيلة"، الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، وعندي كانت هذه الجمعة عيداً خاصاً.

 

بعد الافطار المعتاد، عادت الكهرباء، بسرعة لنستغل الوقت، اسمحوا لي أن اقرأ ما وصلني من رسائل بريدية، كانت كثيرة منها العام ومنها الخاص، فيها أخبار وأسرار، لكنها تبقي وسيلة الاتصال مع الأهل والاحباب.

 

وصلت مجموعة من الأطباء من مدينة خان يونس للسلام والتحية، وبعد حوار "طبي" وآخر سياسي، انطلقنا جميعاً إلى مسجد الإمام الشافعي في مدينة غزة. خطبة الجمعة كانت عن الأوضاع والمستجدات، أصغي الجميع مستمعاً، لكن أيضاً كان بصري يجول في كل زاوية بالمسجد، هو كغيره من المساجد، وفي الوقت نفسه، ليس كغيره من المساجد. كنت اقرأ الوجوه واتصفحها، أنظر للجدران والأعمدة، انها صلاة في غزة، اللهم ارزقنا صلاة في المسجد الأقصى المحرر.

 

المصلون من حولي هم من أبناء هذا الشعب الصابر المصابر، هم صناع التاريخ، مشاعري لا أسيطر عليها، احساس بالنشوة ونفس عميق عميق، الصلاة اليوم في غزة، وبدأ الامام بالدعاء، والألسن تلهج آمين، يارب، آمين، دموع تنهمر من جديد في هذا الجو الايماني، وقلب يمتلىء بروحانية المكان وخشوع المصلين ودعائهم، اللهم انصرنا على أعدائنا، اللهم حرر أقصانا وقدسنا وسائر بلادنا، آمين يا رب العالمين.

 

بعد الصلاة وقف أحد المصلين أمامي ينظر متفحصاً، غاب وعاد، ثم سأل " مش حضرتك الدكتور ابراهيم"، قلت مبتسماً "نعم أخي"، عندها صافحني بحرارة ثم عانقني، وقال أنه سعيد أن يراني في غزة، وأصر أن أصحبه للغذاء في منزله الذي بدأ بوصفه وقربه من المسجد. اعتذرت بلطف لارتباطي بمواعيد أخرى رغم أني كنت أتمنى تلبية الدعوة الكريمة الصادقة، مثال آخر على روعة وكرم وأخلاق شعبنا رغم ظروفه الصعبة.

 

بصعوبة شديدة شقت السيارة طريقها من أمام المسجد، ازدحام شديد، سوق لكل شيء، والكل ينادي ويسوق لبضائعه.من أين تلك البضائع؟، يأتي الجواب من مصر، ضاعت معالم الطريق وتداخل الناس مع السيارات مع "الكارات". فوضى لكنها غير مزعجة، الكل يسعى لرزقه. وبعد الحاح منا، "لو سمحت يا عم ترجع الكارة لورا شوي"، " لو ممكن بعد إذنك تزيح هالصندوق"، وهكذا حتى مرت السيارة.

 

جولة أخرى في شوارع غزة الرئيسية، شارع عمر المختار الشهير، شارع الثلاثين، شارع الوحدة، المساجد الرئيسية، الساحات، المعالم الرئيسية، مستشفى الشفاء، المسجد العمري، الجندي المجهول، وكل ما سمعت عنه من قبل، ودائماً لكل زاوية حكاية. لحظات حزينة الآن، هنا سقط د. عبد العزيز الرنتيسي شهيداً، وهذه المقبرة التي دفن فيها، وفيها أيضاً الشيخ ياسين وغيرهم من شهداء شعبنا، الفاتحة على أرواحهم جميعاً.

 

الطريق مغلق، مهرجان كبير، اليوم ذكرى اغتيال الامام أبو أنس المنسي داخل مسجد الهداية على يد تيار الغدر والفتنة، وفي ذكراه نتذكر أيام العربدة والفلتان والفوضى، ونحمد المولى عز وجل أن تخلص قطاع غزة من قطّاع الطرق، وأن ساد الهدوء والأمن والأمان، رغم محاولات زعزعته من قبل فلول وبقايا الماضي البائد إلى غير رجعة بإذن الله.

 

كانت محطتنا التالية المنتدى الطبي الفلسطيني في غزة، استقبلتنا جموع من الأطباء والصيادلة والممرضيين،إضافة لممثلين عن النقابات المهنية الأخرى، يرأسهم السيد د. باسم نعيم وزير الصحة، وهناك وفود من دول أخرى، لم نكن وحدنا من تشرف بدخول غزة، شخصيات من ألمانيا وتركيا ومصر، ممثلون لمؤسسات خيرية واغاثية، اتحاد الأطباء العرب، جو مهني حميمي، تجمعنا حول مأدبة غذاء، و"التحلاية" كانت كنافة غزاوية، وهي تختلف عن اختها "النابلسية"، لذيذة خاصة مع الجماعة وتناولها من "الصدر" مباشرة.

 

شاركت بعدها في مقر المنتدى بندوة طبية حول احتياجات قطاع غزة ونواقصه من الأدوية والكفاءات والمعدات وغيرها، شاركت بصفتي المهنية كطبيب وأيضاً كنائب لرئيس تجمع الأطباء الفلسطينيين في أوروبا، استمعت لعرض مفصل عن الأوضاع الصحية، وتبادلت مع الزملاء الأطباء الأفكار والمقترحات وامكانيات المساعدة، خاصة من قبل الأطباء في أوروبا.

 

مع نهاية الندوة وسلامات الوداع، وصلت أنباء المعبر، ربما هي ساعات قبل الاغلاق من جديد، علي اتخاذ القرار، لكن يبدو أن أجواء غزة بدأت تنتقل إلي، لم يكن القرار صعباً. بالأمس كنت أفكر بالمغادرة، الليلة لن أغادر، البقاء لأطول فترة ممكنة كان الهدف، لاستمتع بكل لحظة في غزة..أرض العزة.

 

من المنتدى الطبي توجهنا إلى حي الشجاعية حيث منزل أم الشهداء، أم نضال فرحات، وصلنا ووجدناها في استقبالنا بابتسامة وادعة ووجه مرحب، كلمات جميلة رحبت بها بالزوار، أيضاً لا كهرباء، لكنه منزل لا يحتاج للكهرباء، فهو مضيء بأهله وسكانه، ورغم أنهم أضاءوا الشموع، إلا أني ويشهد الله كنت أرى وجه أم نضال هو المشع المنير أكثر من كل الشموع. وجه مضيء تغشاه السكينة والطمأنينة، نظرت اليها، إلى أمنا أم نضال، ما أعظمك من امرأة تفوقت على الكثير من الرجال. شعرت حينها أننا نظلمها بوصفها بخنساء فلسطين، مصيبة الخنساء في أخوتها كانت فادحة، لكن أم نضال تضحيتها وصبرها أكبر وأعظم، إنهم فلذات أكبادها قدمتهم لهذا الوطن الغالي راضية مرضية بإذن الله.

 

قدمت لنا القهوة، والحقيقة أنني لا أشرب القهوة، وكانت أول مرة أتناولها فيها في المجلس التشريعي ثم في منزل السيد هنية، ولا يمكن أن أرد أم نضال، لكن القهوة كانت بطعم خاص، وسبحان الله استمتعت بها، خاصة أنها كانت مصحوبة بتحيات ودعوات أم الشهداء، أم نضال هي أيضاً من زمن آخر غير زماننا، سيدة لا تصفها الكلمات، ولا تستوفيها حقها.

 

وقفنا استعداداً للمغادرة، عاتبتنا أم نضال لاستعجالنا، أرادت أن تعد الطعام، لكن الوقت داهمنا ولا نريد أن نثقل عليها. نظرت اليها مرة أخرى، وقفت أمامها، قلت "أنت والدتنا جميعاً اسمحي لي"، قبلت رأسها، لم أعد أراها، دموعي ملأت عيوني، ثم سمعت ابنها يقول ممازحاً " وين أبوي يشوف اللي عم يصير"، وسط ابتسامات الجميع.

 

في فناء المنزل قالت أم نضال "تعال أوريك وين استشهد عماد عقل"، هنا سقط تحت شجرة كانت تزين فناء المنزل، رغم مصيبتها إلا أنها مدرسة في الصبر والجلد، تشرح بغصة ممزوجة بالفخر، عظيمة أنت يا أم نضال.

 

من هناك عدت إلى غزة، عند مستشفى القدس، للقاء أقرباء لي هناك، ترجلت من السيارة ووقفت انتظر وصولهم. فجأة توقفت سيارة فيها عائلة، نزل السائق وتوجه نحوي. خيراً إن شاء الله، عرّف بنفسه وقال أنه عرفني وأراد أن يرحب بي في غزة، وطبعاً دعوة وتشديد على الزيارة في المنزل القريب، ما أكرم أهل غزة، وما أطيب خلقهم.

 

عند منزل الأقرباء وصل زميل لهم وجار، عتاب حار لعدم اقامتي عندهم، اعتذرت وشرحت الظروف، لم أطل الجلوس، تحادثنا في مستجدات الأوضاع، كانت له ملاحظات على ما يجري، هو ابن فتح منذ عشرات السنين، لكنه ممن قطعت رواتبهم، ساءه أن يساق أبناء فتح للتحقيق في مراكز كثيرة حسب رأيه، وساءه أن يٌجبر الناس على إنزال رايات فتح الصفراء، وساءه أن لا يؤخذ برأي أبناء فتح في إدارة شؤون القطاع، هو عتاب صادق شاركه فيه زميله وجاره، وصراحة نحتاج لها جميعاً، وقلب مفتوح يتسع للجميع. حان وقت المغادرة، الزيارة كانت قصيرة لكني وعدت أن تكون إقامتي المرة القادمة عنده لنتحدث أكثر ونمضي وقتاً معاً.

 

إلى مخيم البريج كانت وجهتنا، ولقاء مع بعض أهالي المخيم، المخيم مدخله وشوارعه تذكرك بمخيمات لبنان وسوريا. سبحان الله الهم الفلسطيني واحد، والمعاناة نفسها داخل الوطن وخارجه، الوجوه نفسها كتاب مفتوح على مرّ سنين الشتات. اللهفة والمحبة ذاتها، الابتسامات لا تفارق الوجوه حتى وان كانت متعبة، أجواء مرحة ترافق اللقاءات.نقاش وحوار وتبادل للآراء، واختتم اللقاء بلفتة طيبة كريمة قدم فيها الحضور مجسماً لمسجد قبة الصخرة، وخشبية على شكل خارطة فلسطين كهدية وذكرى منهم، جزاهم الله كل خير.

 

ما أن غادرنا متوجهين إلى رفح حتى رن جرس الهاتف، توفي والد أحد الأخوة، كان قد طلب مني زيارة والده، لكنه نقل للمستشفى وتوفي هناك قبل أن يتحقق ذلك، رحمه الله وغفر له ولنا.

 

من البريج إلى رفح ولقاء آخر مع أهالي رفح، وعلى وليمة "رفحاوية" تجمعنا حتى ساعة متأخرة من الليل، حديث ذو شجون لا يخرج عن ذات السياق، الهم الفلسطيني والشأن المحلي. تأخر الوقت، ودعت الجميع وسط مطالب بوعد بالعودة، وهل يحتاج ذلك لوعد، في أقرب فرصة ان شاء الله.

 

إلى العائلة التي استقبلتني عدت، ازعجتهم بعد منتصف الليل، لكن كان لابد من الرجوع وشكرهم وتوديعهم، بت ليلتي عندهم، كانت ليلة هي الأخرى غير عادية. غصة الفراق أليمة، وكم وددت أن أبقى أكثر، لكنها ظروف العمل والأسرة والحياة، التزامات وواجبات علي الايفاء بها. جسدي سيغادر أما روحي فقد سكنت هناك للأبد، سأعود حتماً. سأعود إلى القدس ومدينتي يافا، سأزور كل شبر من فلسطيننا الحبيبة.

 

أجريت بعض المكالمات في جوف الليل، جهزت أغراضي للسفر، استلقيت وأعدت شريط الايام الماضية، هو يقين ليس حلماً، كان كذلك ولكنه تحقق.غفوت ويشغل فكري كل ما مضى، وأفكر بالغد والمعبر ورحلة العودة، سهّل يا رب ويسّر.

 

كان الصباح الباكر، افطار سريع ووداع لأهل الدار، وانطلاق إلى بوابة صلاح الدين، ليبدأ الفصل الأخير من هذه الرحلة التي لا تنتهي، وليكون الجزء القادم الأخير، كم أكره هذه الكلمة - الأخير- ، وليكمل توثيق هذه التجربة الشخصية.

 [email protected]

15/02/2008

خاص
(115)    هل أعجبتك المقالة (114)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي