أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غزة...أرض العزة 4 .... د.إبراهيم حمّامي

 

الجزء الرابع.....مع رجالاتها

 

 

كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة والنصف بعد ظهر يوم الخميس، دخلنا مخيم الشاطيء، عدة شوارع ثم استدارنا نحو اليمين،واذ نحن أمام منزل السيد اسماعيل هنية، كان خارج المنزل وأمام بابه، بدا شامخاً بجسمه الضخم الرياضي، ابتسامته المعتادة ارتسمت على وجهه، وما أن غادرنا السيارة حتى اقترب وصافح الحضور بكل تواضع وأخلاق، عانقته وهمست في أذنه "أُحبك  في الله يا ابو العبد" هكذا قلتها دون كلفة، ربما افتقرت للياقة حينها، لكن كان هذا شعوري، هكذا دون تكلف من القلب للقلب، فأجاب مبتسماً "أحَبّك من أحببتني فيه"، دخلنا المنزل دون تفتيش أو حراسة، دون أسئلة واستفزازات تعوّد عليها زائرو القيادات. منزل متواضع بسيط وسط مخيم الشاطيء للاجئين، دخلنا قاعة الجلوس، جلت فيها بناظري، عدت بذاكرتي لقاعات دخلتها لمسؤولين آخرين، قاعة متوسطة الحجم، هي أصغر من قاعات باقي البيوت التي دخلتها حتى الآن، أثاث متواضع جدا، جدران مطلية بشكل عادي، نظرت أمامي وابتسمت، على الجدار المقابل لمكان جلوسي كانت الرطوبة قد تركت أثرها عليه فأثرت على طلائه، يا الله هو بيت مثل بيوتنا، بل ربما أكثر تواضعاً، لكن مع بساطته، جعلني أشعر عظمة ساكنيه والافتخار بهم. عظمة من أبى أن يتنكر لأهله وجيرانه ليسكن القصور أو يشتري أغلى البيوت في أفخم المناطق، ووالله لو فعل ما انتقص ذلك منه فهو يستحق أكثر.

 

جاءت القهوة والتمر، عزم علينا السيد هنية بنفسه، قلت "تفضل يا عيب الشوم" أجاب بأدب "معلش اعفيني"، تذكرت أن اليوم الخميس فسألت "صايم"، أومأ برأسه مع ابتسامة بالايجاب، أخلاق القادة وتواضع الفقهاء.

 

كانت آثار التعب بادية على وجهه، وكعادتي الفضولية سألت عن السبب حتى لا نزيده ارهاقاً، قال من كانوا برفقته أطالوا السهر بالأمس،وهو يستقبل الأفراد والوفود ممن دخلوا غزة بعد فتح الحدود، لم يرفض لقاء أي كان مهما علا أو صغر شأنه، استقبل الجميع دون استثناء، ولم يأوي لفراشه إلا قبل الفجر بقليل، لكنه ها هو يستقبل زواره من جديد، لا يرد طلب أحد.

 

دار الحوار حول أمور كثيرة، منها الأداء الاعلامي للحكومة، وأبديت رأيي بنقاط تحتاج للمراجعة. وضعنا السيد هنية في صورة المستجدات، سأل واستفسر عن أبناء شعبه في الشتات وخاصة في أوروبا. يتابع كل الفعاليات والنشاطات حول العالم، عالم بدقائق الأمور، هكذا يجب أن يكون القادة، مرة أخرى ابتسمت وأنا أتذكر ذاك "الزعيم" وهو يخطىء في اسم بلدة فلسطينية وعلى الهواء!.

 

كان الأصل أن نجلس عشر دقائق ثم نغادر، لكن الحديث الممتع امتد، وأصر "أبو العبد" أن نبقى، وزاد إصراراً أن نتناول طعام الغذاء عنده وفي منزله، لم أنس أنه صائم ولم ينس أصول وكرم الضيافة، اعتذرنا بأدب وبعد حوالي نصف الساعة استأذنا بالمغادرة.

 

وقف السيد هنية وأشار لشخص في الغرفة فتناول مصحفاً كريماً (مصحف المسجد الأقصى) في صندوق خشبي جميل، وأهداني إياه، ووضع شالاً فلسطينياً حول عنقي، اغرورقت عيناي بالدموع، لم أتوقع ذلك، ومن أكون ليغمرني بلطفه وأدبه وتواضعه؟.عانقته بحرارة وتمنيت أن يجمعنا الله سبحانه وتعالى في القدس المحررة بإذن الله، خرجنا ولساني يلهج له بالدعاء أن يحميه المولى من الشرور وأن يسدد خطاه ومسعاه.

 

كنت وما زلت أرفض تأليه الأشخاص والأفراد أو مدحهم، ولكني أجد نفسي مضطراً أن أصف بكل أمانة وصدق ما رأيته واحسست به، غير متملق أو متصنع، فحق الناس أن نصفهم بما فيهم، لا أن نصنع صفاتهم لتناسبنا.

 

كان السيد اسماعيل هنية رجلاً من زمان آخر غير زماننا، هادىء يتكلم بصوت منخفض، يستمع باهتمام، عيون تبرق وآذان تصغي وتركيز مذهل، يشرح ويسترسل دون كلل، يتقبل الرأي دون حرج، صدره رحب وابتسامته لا تفارقه، حباه الله بحسن الخُلق والخَلق، صفات عرفت بعدها لماذا تلتف حوله القلوب في كل بقاع الأرض.

 

كان رجلاً وجدت فيه هدوء أبو بكر، وقوة عمر، وحلم عثمان، وحكمة علي، وتواضع عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم، تشعر معه أنك تعرفه منذ سنوات، لا حواجز ولا تكلف، تواضعه يرفعه، وأدبه يعظمه، وأخلاقه تفرض نفسها على كل الحضور، مهما قلت لن أستوفيه حقه، لكني وبكل صدق أقول أنه من زمن آخر، زمن الخلفاء والعظماء، لقاؤه لن أنساه، رضي الله عنه وأرضاه.

 

بعد مغادرة منزل السيد اسماعيل هنية، قمت بزيارة قصيرة لعائلة أحد الأصدقاء في غزة لأحمل لهم التحية والسلام وأطمئن على أحوالهم، لم أجلس لكن العم أصر أن يشرح لي أوضاعهم ومعاناتهم، هكذا نواجه انقطاع الكهرباء، وبهذه الطريقة ندفيء المنزل، هنا حدث كذا، وهناك كان كذا، كان الله في عونهما، فهو وزوجته يعيشان وحدهما في ظروف صعبة، لهما رب العالمين.

 

أخذنا طريق البحر لنعود أدراجنا إلى خان يونس، كان البحر هائجاً، ومنظر الموج ذكرني بالنشيد "غزة ع مواج البحر بتردد الزغاريد"، صورة جميلة وشعور أجمل، الطريق ليس بأفضل حال من طريق صلاح الدين. مررنا على منطقة الشيخ عجلين ومسجدها الشهير، شاطىء البحر كان الصيف الماضي يعج بالمصطافين، آثار بيوت القش ما زالت هناك، لكن أيضاً كانت هناك أكوام من مخلفات البناء القيت دون رقيب أو حسيب.

 

أبطأت السيارة وقال أحدهم هنا أمسكوا بسميح المدهون، في هذا المكان، أثناء محاولة فراره، وهنا أطلق النار على أحد أفراد الشرطة فسقط كآخر ضحية من ضحاياه، قبل أن ينال الجزاء العادل.

 

من خلال دير البلح عدنا لطريق صلاح الدين، ووصلنا خان يونس، هناك كان لقاء ضم أكثر من 30 شخص، جاءوا ليسألوا ويتعارفوا، جلسة ممتعة امتدت لساعات، ووجوه طيبة مرحبة، ثم كان الاتصال الذي هزني!.

 

اقترب أحد الجلوس وقال هناك من يريد أن يكلمك، من هو؟ أجاب أسير من سجن نفحة، بكل سرور، عرّف بنفسه وقال سمعنا أنك في غزة فأصر زملائي في السجن أن يوجهوا لك هذه الرسالة، وبدأ بالقراءة، كلمات من أبطال شعبنا أسرانا البواسل جعلتني أرتجف، وتعثرت الكلمات، وعجزت عن الرد، هم يرحبون بي من سجنهم، هم من يضحون بسنين عمرهم وجدوا الوقت ليؤكدوا على أخلاقهم وضيافتهم؟ كيف لا فهذه بلادهم وأرضهم ومن أجلها يضحون، هم سادتنا وتيجان رؤوسنا. لم أعرف بما أرد، للمرة الألف غلبني الدمع. أضاف الأسير البطل هل تسمح لي بأن أرسل لك قصيدة كتبتها لأمي؟، ما هذا الأدب؟ هو يستأذنني؟ والله لو أمرني لأطعت، هذه قصيدته أضعها ليقرأها العالم، فرّج الله كربهم وفك أسرهم، آمين يا رب العالمين.

أماهُ ما نظَـمَ القـريضَ لسـاني

جسدِي أسيـرٌ في سجونِ عدوِّنَـا

لكنَّ رُوحـي لا تــزَالُ طليقـةً

بل يَــأْسِرُ الأرواحَ قيـدُ رذيلـةٍ

أماه قلبــي لا يـزالُ محـلِّقًـا

وتطوفُ رُوحي كل يوم حولَكُــمْ

فإليـكِ يَحْـمِـلُني جنـاحُ محبـةٍ

بـل فاضتْ الأوزانُ من وجدانِـي

لله يشكـو قَـصْـوةَ السـجّـانِ

لا تؤسـرُ الـأرواحُ بالقضــبانِ

أو حبـلُ أهــواءٍ من الشيطـانِ

لا يعـرفُ الإذعــانَ للأحــزانِ

وبرَغْـمِ مـا حَوْلي من الجُـدْرانِ

رُبِطَتْ بعقـدِ الـديـنِ والإيمـانِ

وجناحُ شـوقٍ لا يزالُ مُـرَفْرِفًـا               فالشوقُ للأحبـابِ قـدْ أضنانـي

قالـتْ بِـلالُ بُنـيَّ قـدْ أبكَيتَنـي                  دمعًا ذَرا في القلـبِ ,والـعينـانِ

يـا أمُّ لا تَبْكِـي علـيَّ فـإنَّنـي                   أَبصـرْتُ دربِي لسْـتُ  بالحيرانِ

وإليـكِ يـا أُمَّــاهُ ألـفُ تحيـةٍ                    مُزِجَتْ بكـلِّ الحُـبِّ و العرفـانِ

أَرْضَعتِني بالعـزِّ في  زمنٍ مضى             وغرستني في روضـة الـقـرآنِ

أَرْسلْتِنـي لتعلـم الـذكر الحكيـم                 وحـفظِـه بالـفهـم و الإتقــانِ

فنشـأْتُ في حلقـاتِه تِـلْكَ التِـي                 بسكينـةٍ حُفَّـتْ و بـاطمِـئْنـانِ

جمـعٌ مـلائِكَـةُ الإلـهِ تحيطُـه                   يتـدارسُـون روائـعَ  الـتبيـانِ

تتنزَّلُ الرحمـاتُ عنـدَ جلوسِنـا                والخيـرُ يغْشَـانـَا من الرحمـنِ

فنشـأْتُ بالقرآنِ أعـرفُ مَنْهَجِي               وعقيـدتي و بمسجـدي عنـواني

وورثتُ مِن  أمـي الذكـاءَ وفطنةً              ولـقـدْ سبَقْـتُ بذلكـمْ  أقرانِـي

علمـتِنِـي أن الـحيـاةَ قصيـرةٌ                  فتصيّـدْ الـعـزماتِ دونَ  توانـي

واستثمـر الأوقـاتَ  قبل فواتِهـا               لا تُـعْـذِرَنَّ دقــائق وثــوان

وتحلـى بالصبـرِ الجميـل فإنَّـه                خُلـقُ الـدعـاةِ وحُلّـة الأعيـان

لا تَرْضى يا وَلـدِي بهمـةِ قاعـدٍ               واسبِـقْ سُـَراةَ القـومِ كالفرسانِ

قد كنتِ في موجِ الصعابِ كصخرةٍ           صبـرٌ وعزمٌ فيـكِ يلتقيـان

وزهدتِّ في الذهب النفيس لأجْلِنَا             أكـرِمْ بـذاك الـزُهْدِ والإحسـانِ

فالـحمـد لله الـعظيـم مَـليكِنـا                    إحصـاءُ فضـلِكَ ليسَ في إمْكـانِ

ثمّ الصلاةُ على الرسـولِ حبِيبنا               نشـرَ الهُـدى والنورَ في الأكوانِ

 

 

في المساء وبعد تناول العشاء، خرجت لأتجول في المدينة لأراها ليلاً، اختلف الأمر في الليل عنه في النهار، رأيت المسلحين ينتشرون هنا وهناك، ما الأمر وأنا من ظننت أنه لا وجود لمظاهر مسلحة! على رسلك لا تستعجل الأمر، هؤلاء هم المرابطون الذين يدافعون عن ثغور غزة في وجه الاحتلال واجتياحاته وممارساته الاجرامية، هؤلاء أبطال غزة، هؤلاء من يروون بدمائهم أرضنا الطاهرة كل ليلة. توقفت السيارة، واتجهت نحوهم، وجدتهم شباباً في ريعان العمر يدب فيهم النشاط، متحفزون مقبلون، حييتهم وصافحتهم، لم يكن لديهم وقت للوقوف فمهمتهم لا تنتظر، واختفوا تحت جنح الظلام.

 

أديت فريضة الصلاة، راجعت شريط اليوم، كان حافلاً مليئاً، هذه هي رجالات غزة قادة ومرابطون وأسرى، تفاني من أجل الوطن، هنيئاً لهم وبهم.

 

 قررت المغادرة في الصباح، فأخبار المعبر غير مطمئنة، واحتمالات إغلاقه تزداد. حدثت مضيفي بذلك، رفض وبشدة، غداً تصلي الجمعة هنا وبعدها نرى ما يكون،

 

قلت له لم أكن أنوي المبيت ولا لليلة وهذه ليلتي الثانية، لم أستطع إقناعه. إذن على بركة الله، اتفقنا، وآوينا للفراش، في انتظار يوم الغد.

 

 

 [email protected]

14/02/2008

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاص
(109)    هل أعجبتك المقالة (125)

رائعة

2008-02-15

رائعة د شكرا لك .


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي