أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

٣- في الهجرة... ميخائيل سعد

بعد خروجي من السجن عام ١٩٨٩، قال لي والدي يجب ان تزور المحامي المسيحي (س) وهو ضابط أمن في الوقت نفسه وتقدم له الشكر على ما بذله من اجل مساعدتك. اخذت معي مجموعة من الكتب الهامة كهدية توجهت الى دمشق لزيارة هذا المحامي في بيته، بناء على موعد مسبق رويت له ماذا حدث، وقلت له انني عرفت ان رئيس فرع فلسطين مظهر فارس قد قبض نصف مليون ليرة من بعض تجار الكتاب في دمشق، لقاء اخراجي من سوق الكتاب في سوريا. سألني المحامي اذا كنت قد قلت هذا الكلام امام بعض الناس، قلت له نعم، لقد رويت ما اعرفه عدة مرات. قال لي حرفيا: اذا وصل هذا الكلام لمظهر فارس فاعلم ان بقية ايامك ستكون في السجن عنده، هذا اذا بقيت حيا، فدبر راسك.

قررت السفر فورا، ومن حسن الحظ ان جواز سفري وموافقة الامن كانت جاهزة قبل السجن، ولكن كنت ممنوعا من مغادرة القطر، من قبل فرع أمن الدولة. ساعدني اصدقاء على الحصول على حق المغادرة لمرة واحدة. امضيت شهرين ونصف ما بين خروجي من السجن وخروجي من سوريا، كانت اصعب من فترة السجن، نتيجة حالة القلق والخوف من الاعتقال من جديد، ولم اصدق انني حر الى ان اقلعت الطائرة الاردنية من مطار دمشق.

منذ ان هبطت في مطار مونتريال ٢٧١٩٨٩ شعرت ان الارض تحت قدمي طرية، قلقة، دائمة التموج، لم تستقر ابدا منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، تاريخ كتابة هذه الكلمات، ولا اعتقد انها ستكون اكثر صلابة في مستقبل الايام. قبلتني كندا بصفة لاجىء سياسي سريعا، وكانت هذه اسهل محطة في رحلة الهجرة. كان اكتشافي الاول ان السوري مثلي يفتقد الى كل مقومات المهاجر، فأنا لا اعرف اي لغة اجنبية، وليس لدي مهنة يدوية تجعلني اعمل دون حاجة للكلام. ولا املك المال كي يعوض نقص معرفتي باللغات والحاجة الى العمل، وكرجل يدعي انه مثقف، كان عقلي متصلبا ولا يستطيع التأقلم ببساطة مع الوسط الجديد، الذي لا يستطيع قبولي الا كعامل عضلي في احسن الاحوال. رفضت التأقلم وازداد تعلقي بسوريا، وحقدت على الكرة الارضية عامة، وعلى حافظ الاسد ونظامه خاصة، وانخرطت دون تردد في كل النشاطات المعادية لهذه النظام في كندا، وكانت النتيجة مضحكة.

وكان من اكتشافاتي الهامة في الهجرة التعرف على نفسي وعلى زوجتي وابني. ففي سوريا كانت اموري العائلية تسير في سياقاتها العامة، ولم يكن عندي الوقت للرحيل في اعماقي، وهذا ما حققته لي سنوات الهجرة الاولى الخالية من العمل، فعرفت عن قرب كيف تفكر زوجتي، وهالني حجم المسافة التي تفصلنا عن بعض، ورغم محاولات الترميم الا اننا بقينا مختلفين في اغلب وجهات النظر، وقبلنا، دون تشنج، استقلاقية كل منا عن الاخر بحدود الاحترام المتبادل، ولكن الفقر لم يترك لنا متسعا من الوقت دائما لتجاوز صعوبات الحياة العائلية فانفصلنا ثم عدنا للقاء والعيش معا على ارضية مصلحة العائلة وخاصة الاولاد. وبعد سنوات توصلنا الى نوع من السلم الاهلي اللطيف في البيت دون زعبرة ولا دجل ولا ادعاء ولا بروظة، كما هو الحال في اوساط اغلب العائلات العربية التي بقيت تعيش تحت سقف واحد.

الاكتشاف الذي لا يقل اهمية عن اكتشافاتي السابقة هو تعرفي على المجتمع السوري عن قرب، ولكن خارج سوريا. فقد اتاحت لي تجربة النادي العربي-الكندي، الذي ساهمت مع آخرين في تأسيسه عام ١٩٩٣، بالتعرف على مكونات المجتمع السوري دون اقنعة، ومن كل الطبقات والمستويات التعليمية. في سوريا كنت كغيري من المهتمين بالشأنين السياسي والثقافي نعيش في ابراج عالية عن المجتمع وهمومه، رغم ادعائنا العكس، فقد كانت حياتنا السورية تدور في حلقة ندخل اليها من نرضى عنه، أما في النادي الذي ضم بحدود ٣٥٠ عائلة فقد كنت امام المجتمع السوري كله. هنا، في مونتريال، رأيت كيف ان المجتمع الذي عاش حتى ذلك الوقت ثلاثين عاما تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية قد تفتت عاموديا وافقيا فور احتكاكه مع بعض، دون خوف من قول ما يفكر ويشعر به. كان تفتته هو التعبير الحقيقي عن سياسة البعث وقيادة حافظ الاسد القمعية له. كان الانقسام الاول في النادي سوريا- عربيا ثم مسيحيا-اسلاميا ثم حسب الطوائف في الاديان ثم الانقسام المناطقي ثم الانقسام بين ريف ومدينة. ولقد استطاع القنصل السوري في واشنطن، بعد ذلك هدم النادي عبر تحريض بعض الناس على طرد عضوي مجلس الادارة ميخائيل سعد وعيسى بريك اللذين كانا ضد النظام السوري. وبذلك انتهت اول تجربة واكبرها لخلق نوع من اللوبي السوري في مونتريال.
عادة يغرق المهاجر في محيطه وهمومه المحلية بعد مضي خمس سنوات على هجرته، يحاول خلالها العمل وتوفير المال على امل العودة الى الوطن الام، ثم يكتشف انه هاجر كي يبقى، فيبتعد الناس عن بعضهم ويخف الحنين الى الاجتماع مع ابناء الوطن الاصلي.

كسوريين معارضين، كان الامر كمن يبحث عن ابرة في كومة قش. بدأ بعضهم بالاعلان عن نفسه وبالظهور مع وصول بشار الاسد الى السلطة خلفا لابيه، ثم تطور الامر بعد ٢٠٠٥ واصبحنا نستطيع ان نلتقي امام سفارة النظام في اوتاوا ما بين ١٥ الى ٢٥ شخصا، قادمين من ثلاثة مدن كندية على الاقل، للمطالبة بتطبيق حقوق الانسان والكشف عن مفقودي حماه وتدمر، واستمر الامر ضعيفا حتى قيام الثورة. ففي المظاهر الاولى لدعم الثورة كنا بحدود عشرين شخصا فقط، ووصل الامر الى ما يقارب ١٥٠٠ شخص في اكبر مظاهرة للسوريين ضد جرائم بيت الاسد في مونتريال .

لقد استطاعت الدماء السورية الغزيرة التي تسيل في الشوارع السورية من تحريك الدم في عروق بعض السوريين في المهاجر.

هذه نتف من قصة الهجرة السوداء......

زمان الوصل
(127)    هل أعجبتك المقالة (98)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي