أربعون عاما هي الفترة الزمنية بين الكلبة لايكا والنعجة دوللي , لايكا هي أول كائن حي يخرج إلى الفضاء خارج الجاذبية الأرضية بصاروخ "سبوتنك2" الروسي عام 1957 م, لقد التقطوها من شوارع موسكو وكانت كغيرها من الكلاب الضالة , أعطوها هذا الاسم الذي يعني " النبّاحة" بالروسية تيمنا باسم كلاب الصيد في سيبيريا وللرفع من شأنها وتقديرا لتضحيتها بذاتها من أجل علياء البشر إن لم نقل من أجل غلواء البشر. أما دولّي فهو اسم أول نعجة استنسخها الإنسان عام 1996م في أدنبرا باسكتلندا وهي تصغير وتحبب لكلمة " لعبة " في الانكليزية , دولّي استنسخت من خلية ثدي نعجة أخرى وعاشت ست سنوات وماتت بمرض يصيب النعاج المسنات ** وقد قتلوها بما يدعى بالموت الرحيم بعد التهاب رئوي يصيب عادة المسنات من النعاج.. لقد شاخت دولّي بسرعة وبشكل مبكر ...؟! , أما لايكا فعاشت 5 ساعات لا غير ويقال أنهم دسّوا لها السم بآخر وجبة طعام في المركبة الفضائية كما ويقال أنها ماتت نتيجة نقص الأوكسجين.. ماتت إما مسمومة أو مخنوقة...؟! .
الفارس* السير أيان ويلمونت مستنسخ النعجة دوللي تخلى مؤخرا عن مشروع استنساخ أجنة بشرية ويقول أن تخليّه عن هذا المشروع جاء لأسباب علمية وليس لأسباب أخلاقية....؟؟
في العالم الآخر قابلت لايكا دولّي وكان حديث الماضي المفعم بالظلم والألم والعبر :
* لايكا: لقد قدمت حياتي قربانا على مذبح التطور العلمي للبشرية , لم يشاورني أحد ,لم يعطوني حرية القرار , كان قرارهم في منتهى التعسف والهمجية, لو خيّروني ما اخترت تلك الرحلة المرعبة وفضّلت الشوارع المظلمة والباردة وحاويات القمامة .
* دولّي: ما أقول أنا إذن ؟ مخلوق وراثي لا أم له ولا أب ؟ , ولدت من ذاتي وكأنها حالة تبرعم نباتي ,سحقا لهذا العبث الكوني ؟! أليس التنوع والاختلاف هما من مصادر الإبداع والابتكار والتطوّر ؟ ما يفيدهم إن كررت ذاتي آلاف المرات ؟ لقد ولدت لهم أربع نعاج من " زواج" طبيعي أليس أفضل من استنساخهم المشئوم ؟ لقد هرمت قبل أواني وهذا نذير شؤم آخر لو طبّقوه على البشر , وفي النهاية قرروا موتي بما يدعى الموت الرحيم .. حقنة سامة وانتهى أمري .. خسئت رحمتهم تلك .
* لايكا : لا أستطيع وصف شعوري عندما انطلق الصاروخ , خليط من الذعر بل الهلع والرعب لا يطاق, أحسست أن قلبي ينقلع من بين ضلوعي وأنا مكبّلة بقيود لا سبيل للخروج منها وبعد أن حصلوا على مآربهم قتلوني بالسم وتركوني أهيم في الفضاء سنة كاملة إلى أن احترق الصاروخ عند دخوله الغلاف الجوي .. لقد سخّروا الكائنات الحيّة لصالح ما يدعى التقدم العلمي , هل لهم الحق في ذلك ؟ هل أخلاقيات العلم البشري توافق عليه ؟
* دولّي : حالك ليس أفظع من حالي , صحيح أنني ما وعيت خروجي من ذلك النفق المظلم الذي يدعى الرحم , لكن ما أن خرجت وبعد سبعة أشهر من ولادتي إلا وانهالت عليّ الدراسات والأبحاث و " تكالب " عليّ العلماء بالدرس والتمحيص كيف لا و أنا أو ل نسخ بل أول مسخ في التاريخ , ماذا تسمي نعجة ولدت من رحمها ؟ أنت فخورة بأنك أول "رائد " فضاء في التاريخ وفخورة أيضا بفتحك عصر الفضاء والاتصالات أما أنا فإنني براء من كل ما قد يستخدمه الإنسان من شرور في مجال الاستنساخ .. يقولون أنه عصر الهندسة الوراثية وما هو إلا عصر الهلوسة الوراثية إن كان منحاه استنساخ الشر فحسب .
* لايكا : إن العصر الذي ولد بموتي ليس كلّه كما تظنين , بل فيه أصناف هلوعة تجعل الانسان جزوعا , فها هي حرب النجوم وأقمار التجسس ,وغزو الفضاء , وعصر الأقمار الصناعية بما تحمله من شرور مرئية ومسموعة , يتبجحون بأن العالم أصبح قرية صغيرة والحقيقة أنه أصبح كذبة كبيرة .
أليس غريبا أن معظم التجارب العلمية تستخدم أنثى الكائنات الحية دون الذكر !؟ أليس أنا وأنت أوضح مثال؟! , ألهذا الحد وصل طغيان الذكورة عند بني البشر ؟ .
* دولّي: حقيقة أمر يستحق الدهشة والاستنكار بآن ؟ فهناك أخريات كن حقول تجارب للذكور , أول طفل أنبوب عام 1978م كان طفلة وتدعى " لوسي " في إنكلترا , وأول مولود ولد من رحم آخر بعد تلقيحه من أبوين آخرين كان أنثى عام 1986 م والرحم الذي احتوى البيضة الملقحة كان لصانعة الأطفال السيدة ماري بيث ولم تستطع الاحتفاظ بالمولودة مع أنها ولدتها لكن لأبوين آخرين .. هل تتخيّل كم اضطربت أخلاقيات العلم , أصبح هناك " مفقصة " آدمية !. لمن الطفل المولود من رحم ليس هو رحم من جاءت منها البويضة الملقحة ؟ , كان يدور جدل في السابق هل الطفل لمن حملته أم لمن ربّته , واليوم لمن الطفل لمن حملته (وهنا على وهن ) أم لبصمته الصبغية وشيفرته الوراثية ؟ .
* لايكا : في مقالك مسألتين تثيران الجدل , الأولى عن الاستخدام التعسفي للأنثى من قبل الذكور في مضمار التجارب العلمية مع أن الله سبحانه قدم لإبراهيم أضحية بدل ابنه إسماعيل وكان فداءا لإسماعيل وكانت هذه الأضحية ذكرا . أما المسألة الثانية فهي شديدة التعقيد من الناحية الأخلاقية لكن قد يسهل حلها بالاعتماد على الشيفرة الوراثية فقط لا سيما إذا طلع علينا أحد العلماء غدا بـ "بدعة " الرحم الاصطناعي كحال الكلية الاصطناعية اليوم بحيث تنمو البيضة الملقحة خارج أرحام البشر في رحم آلي تماما .. يا لهول الحضارة البشرية ! . أين يتقاطع العلم مع الأخلاق وأين يفترقان وهل فراقهما إلا بداية النهاية ؟ .
* دولّي : ما الفرق بين حالنا اليوم نحن إناث الكائنات الحية غير الآدمية الموؤودة في "قبور " العلم الحديث وبين تلك الأنثى الآدمية الموؤودة في العصور الغابرة ؟ ماذا لو طبّق الاستنساخ على الجنس البشري ؟ أنكون قد نسخناه أم وأدناه ؟
* لايكا : حظّي في الوأد أفضل من حظّك فأنا وئدت في الفضاء ولم يستغرق وصولي إلى هنا وقتا طويلا لقرب المسافة أما أنت فكانت رحلتك طويلة وشاقة ...! , على الرغم من ذلك فقد دخلت أنا وأنت التاريخ وصارت شهرتنا تفوق شهرة أديسون مخترع الفونوغراف عام 1878 م وآينشتين صاحب النظرية النسبية عام 1905 والخوارزمي صاحب علم الجبر ....! , بل فاقت أخبارنا حينها أخبار الجوع والفقر والجهل والمرض والفساد في العالم .... , هل صعودي للفضاء واستنساخك يا صديقتي دولّي قد عالجا هذه الآفات البشرية ؟ , هل تراجع الفقر والجهل والمرض ؟ هل اندحر الفساد والبغي ؟ . على الرغم من كل هذا الإحباط فأنا مسرورة لدخول عالم المشاهير ولم يبق إلا أن أطالب بدخولي كتاب غينيس .
* دولّي :أنا لست مسرورة مثلك , أكاد أموت آلاف المرات يوميا حزنا ووجعا على ذلك الإنسان الذي طغى , ولا أدري إلى ما تصير حاله إن استمر بطغيانه.. . أيبقى أم ينقرض ؟ , إلى ما يصله غروره و استكباره.. أيؤمن أم يكفر ؟ .
من لايكا إلى دولّي أربعين عاما , زمن قصير جدا , يكاد يوازي طرفة عين في تاريخ العالم , لكنه بما حمله من إنجازات يفوق ما أنجز عبر تاريخ العالم كله! هل أسعدت هذه الإنجازات البشر ؟ هل نفعتهم ؟ و نحن " العرب " من البشر , ما هي إنجازاتنا بين عصر لايكا وعصر دولّي ؟
إن مقاصد الحياة أن يعيش الإنسان سعيدا ونافعا ولن يملك السعادة ولا النفع إلا بالعلم الحق والعمل الحق ***.
توضيحات
* حصل على هذا اللقب حديثا
** متوسط عمر النعاج 12 سنة .
*** مقولة لابن رشد
24/12/2007
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية