لاشك أن الكثيرين منا, ممن يُتاح لهم السفر والتنقل بين البلاد العربية, أو بين غيرها من بلاد العالم الواسع, قد لا حظوا كثرة عدد المثقفين والنابهين منهم بالذات, وذوي التخصصات المختلفة من سياسية، واقتصادية، وأدبية، وعلمية، .. الذين ليسوا في بلادهم, ولا في أماكنهم الطبيعية .
ولست أشير بذلك إلى موضوع ( هجرة العقول ) بمعناها الشائع المعروف, وان كان لما أريد أن أتحدث عنه علاقة بهذا الموضوع, إلا لأنني أريد أن أتحدث عنه من زاوية معينة, تخرج بنا قليلاً أو كثيراً عن مشكلة ( هجرة العقول ) بمعناها الشائع .
فمشكلة ( هجرة العقول ) بمعناها الشائع, مشكلة عالمية, لا يختلف فيها عربي عن غير عربي . وحتى البلاد المتقدمة تُواجهها وتُعاني منها, إزاء بلاد أكثر تقدماً . فإذا أخذنا أبرز بلاد المهجر مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا فسنجد فيها عقولاً مهاجرة من البلاد العربية, ومن دول البحر الأبيض، ومن إنجلترا، وفرنسا , ومن الهند وأفريقيا .
المشكلة تنحصر ببساطة في أن بعض المثقفين ـ خصوصاً في ثقافات يشتدّ عليها الطلب أحياناً كالطب والهندسة، وبعض العلوم ـ يفضلون الهجرة إلى بلاد يجدون فيها شروطاً أفضل أو مستوى من المعيشة أعلى, أو فرصةً أكبر للتقدم العلمي, وتحقيق الذات, وربما لا تكون متوفّرة في بلادهم . وهي مشكلة ضخمة وعويصة, وليس لها حل سهل . ومن المؤسف أنها تُشكل جانباً من أكبر جوانب أزمة العالم الثالث وعقبة من عقبات تقدمه .
فالخسارة هنا مادية وبشرية, لأن البلد حين يفقد واحداً من هذه النوعية من أبنائه, يخسر مرتين .
يخسر مرةً بالمعنى المالي البحت, لأن البلد يكون أنفق على هذا الابن مبالغ كبيرة من المال من أجل تعليمه وتكوينه في الداخل ثم في الخارج .
ويخسر مرة أخرى بمعنى أكبر من المعنى المالي , وهو أن خيرة شبابه لا يعودون ليساعدوا في المهمة الصعبة, مهمة التنوير ورفع مستوى سائر الشعب, كالحديقة التي كلما أينعت فيها زهرة جاء من يقطفها .
ومكسب البلاد الأكثر تقدماً في هذا المجال هائل . فهي تأخذ الخبراء جاهزين, بعد أن أتموا ثقافتهم ونضجهم وتلقيهم, وبدأوا في مرحلة العطاء .
والغريب أن كثيراً من الدول العربية لا تدرك قيمة هذا المهاجر المؤقت إذا جاز التعبير, حتى ولو كان عربياً , وحتى لو كانت في أشد الحاجة إلى خبرته .
فالخبير العربي يطلب أجراً أعلى من الخبير المحلي، ولماذا إذا كان المهندس ـ مثلا ـ إيطالياً أو فرنسياً أغدقنا عليه .. وإذا كان نظيره عربياً قتّرنا عليه .. مادام الاثنان متكافئين ؟
فكندا لا تفتح أبوابها، طبعاً، لكل وافد, ولكن إذا كان هذا الوافد خبيراً في مجال يهمها, فإنها تعتبره إضافة إلى رأسمالها، والى إنتاجيتها إزاء ضخامة مواردها واتساع رقعتها وندرة سكانها . إنها تجري وراءه.. وتقدم له الاغراءات.. وتتولاه منذ وصوله بالمعونات المالية والاجتماعية حتى يستقر به المقام في عمل إنتاجي مناسب له . ذلك أنها تعلم أن هذا النوع ـ في أي مجال ـ يضيف إلى ثروة البلاد القومية أضعاف ما يأخذ من مرتب .
وما دمنا قد تعرّضنا لقضية العقول المهاجرة, فلا بد من القول انه إذا كان اللوم أحياناً يقع على البلد الأم لسوء تصرفها مع النخبة من أبنائه, فان اللّوم في أحيان أخرى يقع على عاتق المهاجر نفسه, حين يتصرف في أنانية شديدة, ودون مبرر لمجرد الهرب من مهمة صعبة تنتظره في بلاده الساعية إلى التقدم, لائذاً بالفرار إلى بلد قد تقدم فعلاً, ولم يَعد عليه هناك إلا المشاركة في جني الثمرات .
فهل نحارب هذه النظرة الدونية، ونعيد النظر بواقعنا المعاشي، من خلال الامتثال له، والدفاع عنه بكل قوة للنهوض ـ بالتالي ببلدنا الذي نريده دائماً معافى، بوجود عقوله الغنية الشابة التي تنبض حيويةً، ونشاطاً، وتزخر علماً، وهي قادرة على أن تفعل الكثير، في حال وفرنا لها جزءاً يسيراً مما نعطيه للخبير الوافد ، حينها يُمكن أن نُحافظ على شبابنا، ونحد من إقدامهم على مهاجرة الوطن لقاء تحسين وضعهم المعاشي، الشغل الشاغل الذي يدفع بهم نحو تحقيق رغبتهم المختارة في الهجرة خارج أسوار الوطن !
[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية