أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا وعجوز ألمانية.. وأنا... صخر ادريس


ابتسمت لي كثيراً، كانت تجلس في الصف المحاذي للكرسي الذي كنت اجلس عليه، وتنظر إلي نظرة شوشت أفكاري ولم أدرك معناها، هل هي نظرة حب أم إعجاب أم نظرة من لديه ألف سؤال واستفسار، نظرت إلي كثيراً حتى إنها صارت تحملق بكل جرأة...؟

كنت استرق إليها النظر بطرف عيني مستطلعاً، مستغرباً، متسائلاً أهمس لنفسي: "وبعدين معك شو بدك مني؟"، وعندما قدمت لنا المضيفة الوجبة الأولى، بعدها بثوانٍ معدودةٍ نظرت إلي هذه السيدة وقالت: "أنا لست جائعة، سأعطيك وجبتي"، رفضت عرضها وكنت للطفها شاكراً ولطيبها الغامض ممتناً.

بدأت أمازح نفسي: "إما أن شكلي أعطاها انطباعاً اني شديد الجوع و"مجلوع"، أو أن هذه السيدة لم تقدر على جاذبية شخصيتي فتحرشت بي، إيه شو هالطلة يا بو الصخور"، وكلاهما لم يفرج كربي في التفسير.

بعد الانتهاء من الطعام، فاجأتني بعدما قاربت على نسيانها لانشغالي الحثيث بتقطيع مضغة لحم شبه بلاستيكية وقالت :" خذ هذه الكيكة، إنها لذيذة"، رفضت ثانية وقررت اطلاق رصاصة استفسر بها عن هذا الحب الذي غمرتني به، نظرت إليها مسبِلاً عيني وباشرتها بالسؤال مازحاً :"هل تقابلنا من قبل؟ أم أن لديك حبيب ملامحه تشبهني؟ جعلك تعاملينني بهذا اللطف والحنان"..

كان جوابها صاعقاً ويا ليتني لم أسألها :" لقد رأيت جواز سفرك، علمت انك من سوريا، أنا احب سوريا، احب أهلها، زرتها مرتين". تذكرت أنذاك حين سقط مني كتاب كنت احمله، التقطته ليسقط مني جواز السفر، فتناولته واعطتني إياه.

للحظات ظننت ان الأجواء تبرق وترعد، مطب هوائي لم يعلن الطيار عنه لكنه هزَ كياني، هكذا هي الحكاية إذاً، لا حب ولا إعجاب، هي تعطف علي لأني في نظرها أحد الكائنات السورية وتخشى علي من الإنقراض وتريد الحفاظ علي بإطعامي.

وقبل أن أشرد بخيالي أكملت هذه العجوز الألمانية حديثا : " لقد ذهبت إلى كل الاماكن في سوريا، كما أني سافرت إلى دول كثيرة، لكن لم اجد أكثر كرماً ولطفاً من أهل سوريا، أكلت هناك "اللاهم بااجين" - وتقصد اللحم بعجين -  ولن أنسى طعم "الـ هالابي كوبي " - وتقصد الكبة الحلبية - وأضافت : "أنا أحبكم كثيراً وحزينة جداً على سوريا"..

احسست باعتزاز يغمر مشاعري، شكرت في مكنوني من قابلها وأكرمها لترسخ عندها هذه النظرة، وإذ بي أشكر كل السوريين..نعم كل السوريين، شعبي الطيب الحبيب شعبي الجميل الذي تميز بنكهته السورية المعبقة بتاريخ وتراث أدهشت الثقلين، والذي أطلق عليه الأخرون "الشعب السوري اللاجئ " بعدما كان يأوي الجميع (وهي بالطبع إحدى منجزات الحركة التصحيحية الوراثية التي لايشق لها غبار ولا طين)

تحدثنا كثيرا وطويلاً، لم نشعر بطول الرحلة ومقتها التي امتدت لسبع ساعات، لكنها كانت كفيلة كي أيقن أنها قارئة نهمة وتعلم الكثير عن التاريح السوري، كما أنها شعرت بالسعادة عندما ناقشتها أيضاً عن التاريخ الألماني وبارزتها به، تبادلنا الكثير من المعلومات وصححت لها البعض عن سوريا. فجأة قفزت وكأن جني مسعور أعور مسها وسالتني: "أين أهلك؟"، أجبتها بأننا مبعثرين في الدنيا لأسباب يعلمها الجميع، ولكن بعضاً منهم بالإضافة إلى أقربائي وخلاني وجيراني وشعبي لا يزال في سوريا.

هبطت بنا الطائرة، سألتني ان كنت احتاج لشيء، احساس غريب انتابني، لقد كانت هذه السيدة والدتي الحنونة التي افتقدتها لساعات، أعطتني رقم هاتفها وطلبت مني زيارتها، وقالت لي "إن اردت البقاء هنا نحن نستقبل السوريين، وسأساعدك، ستكون ابني هنا"، شكرتها للمرة الثالثة بل للمرة الألف، وقلت لها بإصرار: "بل أنت ستزورينني على قمة قاسيون قريباً يا آماه، قد لن تكون سوريا التي عرفتيها سابقاً، لكن أهلها لم يتغيروا، باقون كما هم، يعشقون الناس والحياة، بيوتهم كانت ومازالت للضيوف مفتوحة"، ثم نهضت واقفاً وطبعت قبلة ساخنة على جبينها الأشقر الجميل المجعد..

شدت هذه العجوز الألمانية على يدي وأنا أطبع قبلة ولد مطيع على جبينها، أدمعت عيناها ثم صارت تبكي بحرقة، احسست بأبخرة دموعها تتصاعد لتلهب وجنتي الباكية أصلاً..

أما أنا فغادرت الطائرة مسرعاً بينما كنت أسمع شهق بكائها خلفي..

لازالت تبكي هي ...إلى الأن...

زمان الوصل
(125)    هل أعجبتك المقالة (146)

الياسمينة الدمشقية

2012-12-18

جميل ما كتبت استاذ صخر ويعطيك العافية خليتنا نبكي متل العادة.


الياسمينة الدمشقية

2012-12-18

جميل ما كتبت استاذ صخر ويعطيك العافية خليتنا نبكي متل العادة.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي