أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سيرة حرامي أحذية في زمن الثورة

الأحذية كثيرة ورائحتها تزكم الأنوف، لكنها بنظر فاضل فرصة لعشاء فاخر أو زجاجة مشروب وربما أجرة عاهرة.

أحياناً كان ينتظر حتى انتهاء الصلاة ليقفز -ما إن ينتهي الإمام من صلاته- وينطلق كالسهم على حذاء جلد أصلي أو حذاء رياضي من ماركة معروفة، لم يكن يهتم كثيراً بالقياسات الكبيرة أو الصغيرة، وإنما بالقياسات الوسط، ولم يكن يعلم ما هي الموضة الآن ولا زبائنه يعرفون بها.

 كان يعرف الحذاء الجيد من بعد كيلومتر من عنجهية صاحبه، لأن "المصاري بتعلم الحكي واللبس بيعلم المشي"، وكان يتخيل ضحاياه عاجزين عن المشي، ضعفاء، بلهاء، بدون أحذيتهم، لا يفضلونَهُ بشيء، على العكس فهو "علَّم عليهم".

كؤوس المشروب التي يحتسيها فاضل تضاءل عددها، وأصبح ينام بلا عشاء، فأعداد المصلين قلَّت، وأعداد من يرغبون شراء حذاء قلت أكثر.

لم يعد يوم الجمعة يوم المكافأة الكبرى، فهو كثيراً لا يستطيع الوصول إلى الجامع بسبب قطع الطريق، وهو أصبح خائفاً من التوجه إلى الجوامع لِلَمِّ رزقه، فالمكافأة لم تعد تكافئ المخاطرة، سابقاً كان أكثر ما تعرض له علقة ساخنة من المصلين، وانتهت بتدخل أحد المصلين وتعنيفه إياه قائلاً: "يا أجدب إذا بدك تسرق سرُق سجادة من بيت الله، الله بيسامحك بس ما حدا بيسامحك لأنك سرقت بوطه"، وانتهت القصة بضحك الحضور وكم كف على البيعة.

اليوم خاطر مجدداً، ورغم قلة الأحذية الفاخرة استطاع تصيد أحدها بعينين كعيني الصقر، ثوان قليلة كانت قد بقيت على تسليم الإمام وانتهاء الصلاة، صلاة لم تكن كأي صلاة حضرها سابقاً سوى أنه بطبيعة الحال لم يتوضأ لها. كانت الأنفاس مكتومة، والنظرات محتارة، حازمة، خائفة، شجاعة، تنتظر انطلاق صفارة البداية، ومع قول الإمام السلام عليكم ورحمة الله قفز من مكانه لكن صرخات المصلين كانت أسرع منه، للحظة خالها تخصه، لكنه أدرك سريعاً وسط الوجوه المتقلبة أنه.. تأخر، فقد لمح صاحب الحذاء يمشي باتجاه حذائه هاتفاً مع المصلين الله أكبر - الموت ولا المذلة- شهداء رايحين عالجنة بالملايين، ذهل للحظة، أراد إخراج سيجارة، لكنه في الجامع، لا بد أن يخرج، نسي حتى حذاءه، أخرج سيجارة لكنه لم يشعلها، ومضى.
كثيرون يتحدثون عن الشهيد الحافي الذي لم يجدوا معه أي أوراق ثبوتية، قالوا إنه بقي سائراً إلى الأمام حينما رجع الناس خائفين من صوت الرصاص، لكن الأغرب هو رقصه الحافي في مواجهة الأمن، كان يرقص بقدميه لا بجسمه، وضحكاته عالية، آخرون قالوا إنه كان يضحك ويصرخ بصوت عال، ويقفز فوق برك الماء التي اعتاد تجنبها كي لا تتسلل المياه عبر ثقب الحذاء.

لم تعرف قدماه ما إذا كانت الأرض حارة أم باردة، كانت تتحرك فقط، تتحرك إلى الأمام.
رجال الأمن سخروا في المشرحة من الثائر الحافي، وقالوا لا ينقصنا إلا الحفايا، رفسه أحدهم بحذائه العسكري، فيما وضع آخر "بسطاره" على حافة سرير المشرحة، ولم ينتبه للجثة الحافية، لأن جميع الجثث أصبحت حافية.
 

مشاركة: وائل يوسف - زمان الوصل
(140)    هل أعجبتك المقالة (166)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي