أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في السجن... ميخائيل سعد

في بداية السبعينيات، وعلى إثر انقلاب حافظ الأسد، تركت حزب البعث الذي لم يدم انتسابي إليه أكثر من عام لأسباب فلاحية وانتفاعية بحته، وكان ذلك بتأثير أصدقاء أكبر سنا ومعرفة مني بشؤون السياسة والمصالح.
 
لم تكن ثقافة السجون السياسية منتشرة ومعروفة في سوريا حتى ذلك الوقت، كنا قد سمعنا عن تذويب فرج الله الحلو، القائد الشيوعي، بالأسيد في سجن المزة، وعن اعتقال بعد الإسلاميين في حماة مثل الشيخ حوى، ولكن هذه الأخبار كانت معروفة في بعض الأوساط السياسية فقط، أما في أوساط العامة من الناس، فكان السجن للمجرمين فقط، وهذا ما قاله لي أبي عندما جاء لزيارتي في سجن حماة عام ١٩٧٦، فقد بدأ بالبكاء قائلا: بهدلتوني، خليتو سمعتي بالأرض، كل الناس بيقولولي أولادك الاتنين مجرمين وهنن بالسجن. قلت له: ولكن يا أبي أنت تعرف أننا في سجن سياسي. فرد: لا أحد يعرف شو يعني سجن سياسي.
 
كنا ونحن نعيد بناء الحزب الذي هجرناه، نفكر بالسجن، آملين أن يقوم رفاقنا العسكر، الذين لا نعرف عنهم شيئا، ولا يجب أن نعرف، بانقلابهم الذي سيعيدنا إلى سلطة لم أكن شخصيا أعرفها، قبل الوصول إلى مرحلة السجن في حال انكشاف التنظيم. كانت معلوماتي عن السجن قبل الوصول إليه هي من الروايات العربية والعالمية التي كانت تصف حالات التعذيب غير المحتملة وغير المتصورة، وطرق انتزاع المعلومات من السجين وضرورة إنكار التهم كلها أطول وقت ممكن، كي تتيح للرفاق الذين لم يعتقلوا فرصة الفرار والاختباء. كان هاجس السجن والخوف منه يسمم حياة شباب مثلي لم تتجاوز أعمارهم الثالثة والعشرين أو الرابعة والعشرين، وينعكس هذا الخوف على علاقاتنا مع من هم في عمرنا أو أكبر من شباب وصبايا.
 
جاءت لحظة مواجهة الحقيقة في ٢٨ آذار ١٩٧٦، وكنت في المدرسة الابتدائية التي أعلم فيها في حمص عندما دخل أربعة شباب إلى غرفة المدرسين يرافقهم المدير الذي أشار إلي فتقدموا إلي وقالوا لي إن المعلم يريد أن يراك، والمعلم كان غازي كنعان في ذلك الوقت. تم شحني في نفس اليوم إلى سجن المزة. أثناء الطريق كنت مقيد اليدين إلى الوراء ومطمش العينين مما أتاح لخيالي العمل. فقد استرجعت كل حالات التعذيب التي قرأت عنها في روايات عبد الرحمن منيف، وحاولت أن أضع الخطط المناسبة للرد على ألاعيب المخابرات المحتملة للإيقاع برفاق آخرين. وكان يقطع خيالاتي، بين فترة وأخرى، صوت الشيخ إمام عندما كان يقوم أحد عناصر الدورية بتغيير الشريط المسجل أو قلبه لسماع الوجه الثاني منه. كان صوت الشيخ إمام يدخل الطمأنينة إلى قلبي متخيلا أنني لا يمكن أن أكون على خلاف مع شباب يسمعون الشيخ إمام حتى لو كانوا في المخابرات. والحقيقة التي تكشفت فيما بعد، أن هؤلاء الشباب كانوا في بداية تكوينهم وتأصيلهم في مؤسسة ستسقط كل مؤسسات الدولة فيما بعد، وهم مع مؤسسة الجيش الذي سيواجه الشعب السوري وسيحمي نظام آل الأسد.
 
مع اقتيادي إلى منفردة في سجن المزة كان الخوف قد احتل كل ذرة في جسدي وكل خلية في عقلي، وخاصة بعد أن بدأت أقرأ الروزنامات التي سجلها سجناء سبقوني وتشير إلى عدد الأيام والشهور التي أمضوها هنا. كنت قد شارفت على الانهيار عندما فتح الباب واقتادوني إلى غرفة التحقيق، كان فيها على ما أذكر الرائد أحمد عبود وآخر من بيت جميل. تم وضعي في الدولاب مترافقا مع الأسئلة عن خلية حمص، ولما كابرت ولم أعترف، قال أحدهم: امرا أحدا آخر، توقف عن ضرب هذا الحمار واذهب وأحضر أحمد فلا وقت عندنا، هناك من هو أهم. دخل أحمد مسؤول خلية حمص وقال كل شيء، فشعرت براحة ضمير وأكدت ما قاله.
 
في المهجع رقم أربعة، كان فيه ٦٢ رفيقا ومئات قصص الخوف قبل السجن وأثناء السجن. كان النظام يعمل على كسر كل القيم التي يحملها السجين قبل الوصول إلى السجن. وكانت ظروف الحياة اليومية القاسية تحاصر الإنسان وتعريه فتنكشف عورات النفس الإنسانية من أنانية وطمع ونذالة، كما كانت تكشف أيضا عظمة بعض النفوس وقدرتها على تقديم التضحية وإيثار الآخرين، مع ضرورة الإشارة إلى أن ظروف السجن في ذلك الوقت كانت ممتازة إذا ما تمت مقارنتها بظروف سجن تدمر أو حتى ظروف السجناء الإسلاميين في المزة في نفس الوقت.
 
خرجت بعد سنة من السجن، وعدت إليه عام ١٩٨٨ لأمضي سبعة أشهر أزور خلالها فرع فلسطين وفرع عنجر وطرابس وبيروت قبل أن أخرج وأهرب إلى كندا.
كانت فكرة السجن هي سحق إنسانية الإنسان السوري وتحويله إلى شيء، وتكبيله بخوف من أي حالة تغيير ممكنة في حياته.
 
لقد نجح حافظ الأسد وابنه في ذلك على مدى اثنين وأربعين عاما، محاولين وضع السوري في زجاجة مغلقة الإحكام، متناسين أن هذا المجتمع سيستمر في النمو وبالتالي فإن الضغط سيكسر هذه الزجاجة، او القنينة من الداخل. وهذا ما فعله أطفال وتابعه شباب ودعمه عشرات آلاف الشهداء.

(107)    هل أعجبتك المقالة (114)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي