في لقائه الأخير مع قناة الجزيرة تحدث السيد محسن بلال مستخدما باستمرار هاتين الكلمتين خاصة عندما كان يحاول الرد على سؤال المذيع أو على أسئلة السوريين الذين التقاهم في الشارع والذين طلبوا منه أن يحملها إلى السيد الوزير، كان الدكتور يحاول الإجابة مرددا أن المشكلة في كل الأحوال هي في اضطرار المواطنين للوقوف فترة أطول للحصول على المازوت، تحدث السيد الوزير عن خمسين دقيقة، محاولا أن يبدو دقيقا.. للدقة فإن السيد الوزير يكذب عيني عينك، وهو على أي حال يعرف أن حصول المواطن السوري الذي يريد تدفئة أطفاله على شوية مازوت يحتاج في كل الأحوال إلى ساعات طويلة من الوقوف على بعض الكازيات التي ما زالت تحصل على بعض المازوت أو أن عليه أن يختار التسليم بقدره وقدر أطفاله ويستسلم للبرد ولا حول ولا قوة إلا بالله...
ليست الصوبيات هي التي تحتفل بالنار اليوم في بيوت الفقراء، وحدها الأسعار مولعة نار ومرشحة للمزيد من الارتفاع الجنوني في حين أن جيوب المواطن السوري أصبحت فارغة تماما بعد أن تحول الدعم إلى جيوب كبار الفاسدين ومعهم حفنة محدودة من المستفيدين من سياسات النظام، هذا هو التطور الذي تعدنا به جماعة السياسات الليبرالية في الحكومة وهذا هو اقتصاد السوق الاجتماعي الذي تحدث عنه بشار الأسد شخصيا، هو كما شاهدناه وعشناه بردا وفقرا ومحاولة يائسة لإدراك الأسعار في صعودها الجنوني، يعني أن معظم السوريين سينامون بدون تدفئة أو دواء وفي المستقبل القريب بدون غذاء ربما وبدون أي أمل بحياة كريمة، تقرير الفقر في سوريا بين 1996 و2003 الصادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة في سوريا أكد أن 2 مليون سوري فقط، أو 11، 4 % من السوريين، حصلوا في العام 2003 - 2004، أي قبل أكثر من 3 سنوات عندما كانت الحالة أفضل من اليوم بدرجات، على حاجاتهم الأساسية الغذائية وغيرها، وأشار إلى نسبة الفقر المرتفعة جدا في الريف، إن اقتصاد السوق الاجتماعي هذا والتقدم إليه عبر إطلاق الأسعار الجنوني وإعادة توزيع الدخل لصالح حفنة تتقلص عدديا من أفراد العائلة الحاكمة ومحسوبيها وبعض الشركات الأجنبية و"رجال الأعمال" المستفيدين فيم تزداد معاناة السوريين حدة وتزداد أوضاعهم ترديا بشكل غير مسبوق، هو باختصار وصفة لتجويع السوريين، هذا تأكيد لخيارات النظام السابقة وليس تطورا جديدا، حتى عندما كان النظام يعتبر أن سوريا هي بلد للتقدم والاشتراكية كان يفعل وفق الصيغة التي تناسب تماما تكريس وضعيته ليس فقط كرأسمالية دولة بل كمزرعة للبيروقراطية العسكرية الأمنية الدولتية التي كانت تنحط بسرعة إلى حالة عائلية مع تحويل سائر قادة الأجهزة وقمة البيروقراطية الفاسدة إلى حاشية لها، كانت تلك بالتأكيد هي الصيغة الستالينية بنسختها البريجنيفية المترهلة، كانت الطغمة الحاكمة وحاشيتها قد تبنت تماما صيغة القطاع العام كما انتهى إليها في دول أوروبا الشرقية وكان هذا القطاع العام يلعب دورا مزدوجا من جهة في تركيز كل شيء في يد الطغمة التي تعاملت مع القطاع العام على أنه ملك خاص لها ونهبته بانتظام، بالمقابل كان القطاع العام يستخدم كمحاولة لتدجين الجماهير بتخصيص نسبة من الدخل الوطني عبره لتحقيق نسبة عمالة عالية بين الجماهير، أي كان وجود القطاع العام يعني من جهة وجود نصيب مضمون لقسم من أفراد العائلة - شاليش وغيره - ولقسم واسع من الجماهير من جهة أخرى ولو أنه نصيب متواضع أساسا ويزداد تواضعا باطراد، هكذا جرى تقسيم الدخل الوطني يومها بشكل ينسجم مع القاعدة السياسية والنظرية للنظام التي دمجت الستالينية بالكيم إيل سونغية بالبريجنيفية بالاستبداد الشرقي بالشعارات الشعبوية لفترة صعود الفكر القومي - حملت هذه الصيغة يومها دعما هائلا للنظام اقتصاديا من كل الجهات وعسكريا سوفيتيا وسمحت له بتثبيت سطوته على المجتمع وبلعب دور إقليمي متعاظم، بالمقابل فإن النظام اليوم يغير قاعدته ليس فقط السياسية والفكرية بل والاجتماعية (لأن مرجعيته الأساسية كما هي حالة كل الأنظمة العربية هي في هيمنته الكاملة على المجتمع ولهذا شاهدنا "تحولات عميقة" على الخيارات السياسية الداخلية والخارجية والاقتصادية لبعض هذه الأنظمة لكن ضمن ذات إطار الهيمنة على المجتمع - مصر وليبيا ودول الخليج والنظام السوري)، إنه ينقلب على تلك المحاصصة بينه هو وحاشيته التي أدارت القطاع العام وبين عمال هذا القطاع أو الشعب الفقير العامل على الأصح، إن نصيب الشعب الذي كان سابقا يصرف على دعم المواد الغذائية والمحروقات وتحقيق عمالة عالية امتصها قطاع "الدولة" سيقسم اليوم بين العائلة وحلفاء قدامى جدد (هذا هو باختصار مضمون السياسات الجديدة للنظام) من أبرزهم الحاشية طبعا ومن بينهم أيضا قوى تابعة للرأسمال الإقليمي - الأمير الوليد بن طلال صاحب الفور سيزونز على سبيل المثال لا الحصر - وللرأسمال العالمي، قد تلعب هذه القوى المستفيدة من علاقتها بالنظام دورا ضروريا بالنسبة للنظام في تحسين علاقاته الخارجية بمراكز رأس المال العالمي والإقليمي عدا عن تسهيل انضمامه إلى البنية الرأسمالية العالمية والإقليمية في حال تمكن من حل إشكالاته السياسية مع مراكز تلك البنية - لا يمثل الاقتصاد السوري في كل الأحوال مصدر إغراء للرأسمال العالمي كما هو الحال مثلا في اقتصاديات دول الخليج والعراق التي اجتذبت حربا ثم احتلالا ذات تكلفة باهظة أولا ثم مؤخرا صفا من قادة العالم الرأسمالي باحثين عن صفقات بمليارات الدولارات ولن يمكن كسب رضا رأس المال العالمي عبر إغراءات من هذا النوع لتواضع الأرباح أو الصفقات المتوقعة - هدف أمريكا ورأس المال العالمي هو إنتاج سلطة تابعة أساسا لها لحماية الساحات الأكثر أهمية والنظام يدرك هذا ويحاول مغازلته أو تجنب مواجهته قدر الإمكان وعلى هذا يجري التنافس اليوم، إن أية ترتيبات يدخل فيها النظام سواء مع أو ضد النظام العالمي الرأسمالي الاقتصادي والسياسي تهدف للحفاظ على حصة النظام هذه على أنها حصة "الأسد" في أي توزيع للثروة الوطنية، إن القضية ليست انقلابا على التوزيع السابق للثروة التي كان فيها النظام أيضا صاحب الحصة الأعظم بل هو إعادة ترتيب ضرورية للتغلب على نتائج التعقيدات الاقتصادية الناجمة عن انحسار المكاسب من النفط ومن نهب لبنان وتردي العلاقات مع دول الخليج وغيرها من الدول المانحة، إن الجوهر نفسه وإن اختلفت النتائج على الجماهير بشكل دراماتيكي، عملية إعادة توزيع الثروة هذه تجري منذ فترة لكنها اليوم تتسارع بشدة بحيث أنها أصبحت تهدد وضع الجماهير المعيشي بشدة وتقود إلى تردي متسارع في أوضاع الناس، لقد أصبح مجرد توفير الحاجات الضرورية للحياة يتطلب نضالا وكدحا فائقين وتصبح أكثر فأكثر بعيدة عن متناول أغلبية السوريين العاديين، إن النظام يكذب ويمارس الخداع كخطوة تالية ضرورية لنهبه سوريا وسرقة عرق شعبها، إنه يستخدم خطابا نيو ليبراليا اقتصاديا في محاولة لترجمة الوعود التي قدمتها النيو ليبرالية إلى اللهجة السورية في محاولة للتغطية على الانهيار في أوضاع الجماهير بأن يعد بالمن والسلوى على الطريقة النيو ليبرالية ويختبئ خلف مقولات حتمية الطريق النيو ليبرالي وحتمية هذه "التضحيات"..
هكذا يقدم النظام نسخته النيو ليبرالية عن إعادة التوزيع التي تجري على المستوى العالمي لصالح رأس المال الكبير بأن يلعب هو هذا الدور وطنيا، هذا سيفاقم بالتأكيد أيضا أزمة علاقة النظام بالمجتمع التي تحولت منذ وقت طويل إلى علاقة قمع مباشر لأي حراك سياسي مستقل للنخب ناهيك عن الجماهير وبالتالي يتطلب من النظام تصعيد قمعه للنخب وللجماهير على التوازي مع سعيه لالتهام البقية الباقية من حصة الجماهير من الثروة الوطنية..
إن النظام بنسخته النيو ليبرالية هو بالتأكيد أكثر شراسة في استغلال الجماهير وإفقارها، وهذا يحتاج فورا لتنظيم مقاومة الجماهير في مواجهة سياساته.. إن الرد الوحيد الممكن هو في خوض الصراع ضد النظام ببنيته وسياساته وأجهزته، ليس بالشكل التلفيقي والفوقي الذي يتحدث عنه اليسار الستاليني والجبهوي في محاولة لذر الرماد في العيون، بل من الأسفل وسط الجماهير وبتحد مباشر لفساد وسياسات النظام بقصد هزيمتها وليس بقصد إدخال إصلاحات عليها ولا بغرض إعادتها إلى وضعية الماضي التي تسعد بلا شك بيروقراطية القطاع العام التي تخسر ثقلها و"مصدر عيشها" من نهب القطاع العام..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية