أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غلاء الأسعار والفساد والاستبداد العربي المشترك: أيها الجياع لا تهتفوا لأحد! ...محمد منصور

تابعت أكثر من تقرير إخباري مؤخراً... حول موجات غلاء الأسعار، وارتفاع تكاليف المعيشة في أكثر من بلد عربي... فمن تقرير مع تاجر ذهب في غزة، يشكو أنه لم يعد قادرا علي تأمين كثير من الأشياء لأسرته، في ظل ندرة وغلاء أسعار المواد الغذائية والتموينية في غزة... مع أنه (تاجر ذهب)!
أي حتي لو كان تاجرا صغيرا فإن أصغر رأسمال يملكه في هذه المهنة، ينبغي أن يكفيه لتحقيق دخل أسري فوق المتوسط في أسوأ الأحوال!
وإذا كانت غزة تشكو من الحصار الإسرائيلي المدعوم بالتخاذل المتعارف عليه للموقف الرسمي العربي الذي لا يفتأ يدين ويشجب، فإن موجة الغلاء في الأردن الناجمة عن تحرير أسعار المشتقات النفطية في الأردن دفعت بعض النقابيين هناك، للصراخ في اعتصام غطته إحدي القنوات الإخبارية العربية: الأردن ليس للأغنياء فقط!
وعن سورية تابعت قبل مدة تقريرا إخباريا عجيباً، بثته إحدي القنوات الإخبارية أيضا، عن ارتفاع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي... وعن التحسن الذي طرأ علي سعر هذه الليرة... لكنني رغم ذلك لم أفهم لماذا صاحب هذا التحسن ثلاث موجات متلاحقة من الارتفاع في الأسعار أيضا... وهو ارتفاع اعتاد التلفزيون السوري والصحافة الرسمية، أرجاعه لجشع التجار أو ضعف الرقابة التموينية عليهم... إذ أن أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي المعمول بها في الإعلام الشعاراتي السوري، تصور التجار دائماً علي أنهم وحوش ينهبون قوت الناس ويتربصون بخيرات الوطن... وهو وصف يلصق بأصحاب الكار الحقيقيين والعريقين، ويستثني منه أولاد المسؤولين الذي دخلوا مجالات التجارة والاستثمار بالقوة والبلطجة علي مبدأ (يا فيها يا اخفيها)!
ومن سورية إلي السعودية، تكرر الحديث عن موجة طارئة لارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية في المملكة، وهو الأمر الذي غطته قناة (العربية) بأكثر من تقرير إخباري مؤكدة عزم حكومة خادم الحرمين الشريفين (الرشيدة) كما تنعت دائماً، بالتصدي لهذه الظاهرة، وإصدارها لنشرة أسعار أسبوعية، وفرض غرامات باهظة علي من يتجاوزها... وعقوبات قد تصل إلي إغلاق المحل المخالف لمدة معينة... لكن ذلك لم يحل دون ارتفاع الأسعار رغم تلك الإجراءات... وهذا في الوقت الذي تسجل فيه أسعار النفط، ارتفاعاً غير مسبوق في بلد هو من أكبر مصدري النفط في العالم... وفي بلد كثيراً ما عرف من قبل باستقرار أسعار السلع الغذائية فيه!
وفي مصر... تنقل إحدي القنوات التلفزيونية صورة تزاحم وصخب علي شراء الخبز من أحد الأفران... فيما يصرخ رجل مسن راتبه التقاعدي لا يتجاوز المئتين وخمسين جنيهاً (حوالي خمسين دولارا أمريكيا) أمام كاميرا التلفزيون: رغيف الخبز بخمسين قرش... طيب ناكل منين... وأطعمي عيالي ازاي؟؟... حد يقولي يا ناس!
وهكذا في إعصار الغلاء العربي الذي بدأ يضرب شواطئ الدخل القومي للمواطن العربي منذ العام المنصرم 2007، وحتي مشارف العام الحالي 2008.... يستوي ابن غزة الذي تحت الحصار الخانق... وابن سورية والأردن حيث الأنظمة الوطنية ذات السيادة... يستوي المواطن العربي في دولة نفطية غنية كالسعودية، وفي أخري اشتهرت بارتفاع نسبة الفقر فيها كمصر... ويستوي من انهارت عملته المحلية أو تراجعت... ومن تحسنت أيضاً... ويتساوي كذلك من كسدت بضاعته... ومن ارتفع ثمن الصادرات الأساسية التي تشكل رافعة اقتصاده! وتصبح الصورة العربية الواحدة التي يمكن أن نشكلها من مجموعة هذه التقارير الإخبارية المتفرقة والمتناثرة، هي صورة مواطن أقض ألم الأسنان فجأة نومه الطويل... ودفعه للقفز والصراخ بعد أن لم يعد بإمكانه احتمال الألم!
فماذا خلف هذه الصورة... وماذا وراء ذاك النوم الثقيل؟! وما هي أسباب ارتفاع الأسعار في عدد كبير من الدول العربية في الآونة الأخيرة، رغم اختلاف ظروفها الاجتماعية، ونمط اقتصادها، وطبيعة مواردها، ومستوي دخل أبنائها القومي... ونقاط القوة والضعف في هذا الدخل أو ذاك؟!
لا أريد أن أدخل في التحليلات الاقتصادية كي أفسر خصوصية هذه المشكلة هنا أو هناك... فهذا ليس اختصاصي... ولا أريد أن أتحدث بلغة الأرقام فهذا ليس مجال هذه الزاوية... أريد أن أهمس في أذن وقلب كل مواطن عربي يقرأ كلماتي ويري قبل هذا صورة معاناته علي الشاشة في نشرات الأخبار... أريد أن أقول له وأنا أري ما يجري من خيبة وإحباط ولهاث وألم، ومن قهر الآباء عندما لا يتمكنون من تأمين الحد الأدني من متطلبات الحياة اليومية لأبنائهم في أحيان كثيرة... إن خلف كل ما وصلنا إليه، وما سنصل غول اسمه الاستبداد... يرعي ويغذي وحشا اسمه الفساد!
فالفساد هو الذي يجعلنا اليوم جميعا في مواجهة مشكلة الغلاء وارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية... لا تصدقوا كل التنظيرات الاقتصادية الأخري... فهذه لن تكون مفيدة إذا كانت السلطات العربية المستبدة ترعي كل هذا الفساد النابع منها وفيها!
لست شيوعيا ثورياً كي أحرضكم علي الثورة الحمراء... ولست فوضويا متمرداً كي أنادي بالعصيان في الشوارع... ولستم تنتظرون نداء مني أو من غيري كي تهبوا... ولو كان الأمر كذلك لألهبتكم نداءات أطفال غزة تحت الحصار... وأنين مرضاها في مستشفيات غدت بأمر علني من أولمرت ممنوعة من الماء والدواء والكهرباء في واحدة من أجلي لحظات العار العربي والإنساني!
كل ما أرجوه فقط، وأنا أري صراعكم المضني مع هذا الغلاء الفاحش، أن تكفوا عن استرخاص أنفسكم وكراماتكم... ألا تخرجوا لتهتفوا لأحد بالروح والدم... ألا تسبحوا بحمد شخص، لم يردع عنكم ذئاب الفساد، وإنما تحالف معها وأطلقها عليكم كي تنهب خيرات أوطانكم، وتدوس حقوق مواطنتكم، ثم تنتزع من بين أيديكم آخر قرش أو فلس أو درهم... كي يجعل من حياتكم ـ إن استطعتم أن تقوا أنفسكم وأهليكم غائلة الجوع ـ مجرد لهاث لا ينقطع وراء حلم ذليل: تأمين لقمة العيش فقط. لا... لا تهتفوا لأحد!!

القدس العربي
(112)    هل أعجبتك المقالة (112)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي