أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في الخوف... ميخائيل سعد

حاولت دون جدوى الحديث والكتابة عن الخوف الذي صاحبني طوال عمري، ومع ذلك احاول من جديد.

كنت احسد الاطفال الذين يتمردون على أوامر اهلهم دون أن يشعروا بالخوف أو ربما كانوا على استعداد لتحمل ثمن التمرد، ولم اكن من اؤلائك الشجعان. وقبل الابحار في عوالم الخوف التي رافقتني، احب الاشارة الى انني عشت في مجتمع كله عنف: الاب يضرب الابناء والزوجة، والام تضرب الابناء، والكبير من الاخوة يضرب الاصغر سنا، والذكر يضرب الانثى والمعلم يضرب التلميذ، والشرطي يضرب المواطن، والمالك يضرب الفلاح، والضابط يضرب المجند، والمهني يضرب صانعه، واين المدينة يضرب ابن الريف، ثم ابن الريف يضرب ابن المدينة، الى آخر سلسلة العنف. ولكي لا اظلم اسرتي احب الاشارة الى ان ابي الفلاح ثم الشرطي ثم المتقاعد وسائق التاكسي لم يضربني ابدا، وانا مقهور منه بسبب ذلك حتى بعد ان مات، فتمييزه لي من بين اخوتي جعلني اشعر بالخوف ايضا كلما رأيت ابا يضرب ابنه.

في طفولتي الاولى، كان اخي الكبير يقوم بمعاقبتنا في البيت، وكان قاسيا، فهو لم يكن يعرف حجم الالم الذي كان كفه الكبير يسببه لنا ويترك آثاره على وجوهنا. وكان الخوف منه هو ما دفعني وانا في الصف الاول الابتدائي الى الكذب وتزوير الجلاء المدرسي. فقد كنت اقول في البيت متباهيا، انني سأكون الاول في الصف، وعندما تم توزيع الجلاءات اكتشفت انني الرايع، فأخفيت الجلاء عن الجميع الى ان قمت بتزوير الدرجة وجعلها الثاني، مدعيا ان التعديل حصل في المدرسة.
النوع الثاني من الخوف الذي رافقني. هو مواجهة المدينة للمرة الاولى، فقد كانت القرية لا شيء امام جبروت اي حي من احياء المدن التي عشنا فيها، وكان علي السيطرة على الخوف الذي يلف حياتي الجديدة، وما ان ابدأ بالتأقلم مع الحي الجديد في المدينة، واتقن لهجة الاطفال فيه لأتقي شر نظرات الاستهجان في عيونهم، حتى يأتي الامر بنقل ابي الى مدينة أخرى، فيبدأ المسلسل من جديد.

في المدرسة الابتدائية والاعدادية كنت أخاف الخروج في درس الديانة الاسلامية، كي لا يشار الي بالغريب، ومن جهة اخرى كان بقائي هو محاولة ساذجة من طفل لكسب رضا المعلم، الذي لم يكن يتأخر بالاشادة بهذا المسيحي الذي يحب التعلم، وكيف انني احفظ بعد الآيات القرانية افضل من الطلاب المسلمين. كان تفوقي الدراسي مفيدا من جهة ولكنه كان ايضا تعبيرا عن الخوف من دخول عالم حارات المدينة مع الاطفال، وكان مصدر نقمة في احيان اخرى. ففي احدى مدارس حماه عام ١٩٥٩، وكنت في الصف الثالث، استدعاني معلم الصف الخامس لحل مسألة حساب لم يكن يعرفها احد طلاب الصف، ففعلت ذلك، وكان نصيبي بعد المدرسة بعض الصفعات من طلاب الصف الخامس فخفت من التفوق وقررت ان لا اقول بعد هذه الحادثة انني اعرف شيئا مميزا اكثر من الاخرين.

ربما كان خوفي الابدي من كل شيء قد دفعني ان اقبل ما يقوله الناس دون محاولة الغوض في المعاني المحتملة لكلامهم، وهكذا كنت اتعامل مع المستوى المباشر للكلام، رافضا الباطنية كطريقة في فهم وتفسير النصوص او التلميح والاشارات اثناء الاحاديث.

في مرحلة المراهقة، كانت المرأة مصدر خوف ورغبة. الخوف منها سببه ان كل جميلة كانت تشبه مريم العذراء بشكل او آخر وبالتالي كان ممنوع على خيالي ان احلم بامرأة جميلة لأن ذلك يدخلني في المحرم الذي يقود الى جهنم، وكانت المرأة غير الجميلة مصدر عذاب مخيف لخيالي الحالم بامرأة خاصة، وهكذا رافق الخوف صورة المرأة في خيالي الفقير.

ما تبقى من خوف في حياتي، يشابه خوف كل السوريين: الخوف من الحاكم، والخوف من المحقق ومن السجان والخوف من الفقر والخوف من البرد والخوف من كسر العادات والتقاليد والخوف من الله ورسله وجهنم ويوم الحساب، وبكلمة موجزة: الخوف من السلطة مهما كان مصدرها.

كانت حياة السوري كلها خوف من لحظة ميلاده الى مماته، لهذا فان الثورة السورية التي كسرت هذا الخوف الذي اسس لبعضه وبناه حافظ الاسد، اهم انجاز يقوم به هذا السوري في حياته السابقة والحالية.


مقالات سابقة لـ"ميخائيل سعد"

نص كسوة... ميخائيل سعد
2012-10-17
كانت النساء السوريات في بعض مناطق مصياف، والتي منها قريتي حزور، عندما يردن شراء القماش من اجل تفصيل ثياب داخلية لهن (سراويل)، يخترن قماشا معروفا في ذلك الزمن باسم (باتيستا). أما القماش المخصص للشلحات النسوانية فكان...     التفاصيل ..

ميلادي الـ 24... ميخائيل سعد
2012-10-11
كنت أحلم دائماً أن أكون كاتباً، خاصة بعد أن نشرت أول مقال في جريدة العروبة، وأظن أنني وقتها، اشتريت ثلث كمية الأعداد المطبوعة من الجريدة، ووزعتها على معارفي وأصدقائي وأقاربي وأهل الحي وأهل القرية، كي أبرهن للجميع...     التفاصيل ..

عبيدٌ إلى أبد الآبدين... ميخائيل سعد
2012-09-27
كان يمكن للمدن والبلدات السورية أن تبقى سليمة دون دمار. كان يمكن للسوريين الذين استشهدوا أن يكونوا أحياء بين أسرهم وفي بيوتهم لو لم يتظاهروا.  كان يمكن للمياه والمازوت والغاز والخبز والسمنة والعرق والدخان وغيرهم...     التفاصيل ..

من ذاكرتي الحموية... ميخائيل سعد
2012-08-29
في العام الدراسي ١٩٥٨-١٩٥٩، كنت في الصف الثالث الابتدائي، في مدرسة طارق بن زياد، في حي المدينة في حماه. كان والدي شرطيا، براتب قدره، على ما اذكر، ١٤٠ ل س. وكان قد استأجرة غرفة لسكن العائلة عند عائلة مسيحية اسم رب...     التفاصيل ..

(122)    هل أعجبتك المقالة (127)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي