مع تكوّر العالم على ذاته, واختصار المسافات الشاسعة التي تفصل بين البلدان البعيدة, من خلال ثورة الاتصالات والمعلومات التي عولمت الأمم والشعوب والدول وحتى الحضارات, بالمعنى الإيجابي للكلمة, فإن أهمية وسائل الإعلام الراهنة قد أضحت مضاعفة، خاصة عندما يكون موكولاً بها، على سبيل المثال، مهمة تغطية صراع بشري قائم حول قيمة من القيم الإنسانية أو مصلحة من المصالح المعتبرة, فيوكل إليها بسط وشرح خلفيات وأبعاد هذا الصراع بما يسهم في تكوين الرأي العام العالمي حول طبيعة هذا الصراع. الأمر الذي أحسنت الولايات المتحدة استغلاله على أكمل وجه، فبنت لنفسها إمبراطورية إعلامية هائلة، مسخرة إياها في ترويج مبادئها وقيمها ونمط حياتها لتكريس هيمنتها الأحادية على العالم بأسره.
ورغم تعدد مصادر المعرفة والأخبار وتشظي عدد الوسائل التي يمكن للمواطن الأمريكي أن يستحوذ من خلالها على أي معلومة تهمه، وفي ضوء تزايد أعداد المرتادين لشبكة الانترنت العنكبوتية؛ وفقاً لتقرير متخصص عن حال وسائل الإعلام الإخبارية لعام 2007 المنصرم، والذي قدر العدد بما يقرب من مئة وأربعين مليون أمريكي لمتابعة الأخبار والأحداث الراهنة، فإن مستقبل الإعلام الجديد إذ يبشر بالتفاؤل والأمل بالنظر إلى سرعة توصيل المعلومات وتحديثها، إلا أنه لم ينعكس إيجاباً على مستوى معرفة الشعب الأمريكي وثقافته، ومدى إلمامه بقضايا وشؤون العالم الذي تدعي إدارته السياسية تزعمها لقيادته منفردة.
فهناك على سبيل المثال 64% فقط من الأمريكيين أمكنهم تحديد هوية "ديك تشيني" بوصفه نائباً للرئيس - وهو الرجل الذي يعتبره الكثيرون السياسي الأكثر نفوذاً في الولايات المتحدة - بينما تمكن 69% في المئة من الأمريكيين من تسمية نائب رئيسهم "جورج دبليو بوش" في عام 1989، طبقاً لنتائج بحث أجراه مركز "بيو" هذا العام. وفي السياق ذاته، فإن عدد الأمريكيين الذين يمكنهم التعرف على الممثلة ونجمة موسيقى البوب السمراء(Beyonce) أكثر من الذين يعرفون "باراك أوباما" السيناتور الأمريكي المرشح عن الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية. وهناك 93% في المئة من الأمريكيين الذين يمكنهم التعرف على حاكم ولاية كاليفورنيا نجم هوليوود السابق "ارنولد شوارزينيغر"، بينما يمكن 36% في المئة فقط التعرف على شخص الرئيس الروسي.
وأشار التقرير الذي أصدره مركز أبحاث "بيو" إلى أن الأمريكيين الذين يستفيدون من مصادر الأخبار المتاحة يصبحون أكثر دراية ومعرفة بالأحداث بالمقارنة مع الأشخاص الذين يقرؤون ويشاهدون ويستمعون إلى الأخبار عبر منفذ إعلامي واحد. وقد صنف التقرير 73% من الأمريكيين الذين لا يطلعون على الأخبار من أي مصدر إخباري في خانة من لا تتوفر لديهم أي نوع من المعرفة، في حين آن 50% تقريباً من المصنفين ضمن من تتوفر لديهم المعرفة يستقون معلوماتهم من سبعة مصادر إخبارية مختلفة على الأقل.
وإذ كان الاطلاع على الأخبار يزيد، بوجه عام، معرفة الأحداث الراهنة والشؤون الدولية، إلا نوعية البرامج الإخبارية التي يسعى الأمريكيون لمشاهدتها تؤثر بدورها على قدر المعرفة التي يتلقونها.
وبحسب التقرير، فإن 54% من مشاهدي البرامج التليفزيونية اليومية التي تتناول الأخبار على نحو هزلي وانتقادي يُصنفون في خانة من تتوفر لديهم درجة عالية من المعرفة. فيما 35% فقط من مشاهدي قناة "فوكس" الإخبارية صُنفوا في نفس الدرجة. وربما كان نقص المعرفة بين الأمريكيين في الفترة ما بين عامي 1989 و2007 كما أورد التقرير عائداً إلى عدم القدرة على تمييز الخبر والمعلومة الصحيحة وسط ذلك الخضم الهائل من وسائل الإعلام الإخبارية.
كما عزت الجهة المسؤولة عن حالة الإعلام الإخباري تراجع معرفة الأمريكيين إلى تدني توزيع الصحف المطبوعة بما فيها الصحف الأمريكية الرئيسية مثل الواشنطن بوست ولوس انجلوس تايمز وبوسطن جلوب، وهو الأمر الذي يعدّ انعكاساً لاتجاه الكثير من الأمريكيين صوب شبكة المعلومات لمعرفة الأخبار، فضلاً عن قلة الاهتمام بالأخبار بين أبناء الجيل الحالي من الشعب الأمريكي.
ويبدو أن وفرة الخيارات أمام الأمريكيين قد دفعت بهم إلى اختيار مصادر الأخبار المتساوقة مع معتقداتهم الخاصة لدرجة أنهم أصبحوا غير عابئين بمعرفة القضايا التي قد تشكل تحدياً فكرياً أو سياسياً لهم، وفي ضوء تناسل وسائل الإعلام الإخبارية وغير الإخبارية، بدا وكأن تحدياً جديداً أمام صانع القرار ومخططي الاستراتيجيات الأمريكية قد أضحى ماثلاً وبقوة، لمعرفة سبب عدم مبالاة الشعب الأمريكي بنيل المعرفة والمعلومة رغم انسيابية توفرها ووفرتها.
هل المراهنة على جهل الأمريكيين بقضايانا ما تزال قائمة؟!...هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني /[email protected]
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية