أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من أجل تسوية تاريخية... جورج ناصيف

الصرخة التي أطلقها قائد الجيش الى المرجعيات السياسية والدينية واصحاب القلم والكلمة، داعياً الى الوحدة الوطنية "بعيداً من الصدام والتجاذب السياسي العبثي"، والى "التنازل من هنا وهناك" باعتبارهما السلوك الوحيد الذي يفي العسكريين ما بذلوه من تضحيات، والمواطنين ما كابدوه من جروح، هي صرخة تعفينا من أي تعليق او اضافة.
"القاعدة" باتت "تعشعش" في الداخل اللبناني. الخلايا "النائمة" تستفيق تباعاً. التنظيمات المحسوبة زوراً على الفلسطينيين تشحذ السكاكين، سلاحاً وكلاماً. الجيش موزع ومستنزف ومرهق ومثقل بالاعباء، ولا يكفّ عن السخاء بالدم، ولا يكفّ عن الالتزام الوطني العالي بالقضية الفلسطينية وبعداوة الكيان الصهيوني.
... فيما الطبقة السياسية، موالاة ومعارضة، لا تملّ من تكرار سجالاتها، صبحاً ومساء.
خلص، يا اصدقاءنا، ويا اصدقاء سوانا. خلص. والله شبعنا. لقد حفظنا كل الحجج. لم يعد هناك من كلمة واحدة جديدة.
نعلم ان الجسم الرئيسي في المعارضة جزء من محور ايراني – سوري. نعلم ان دمشق مسؤولة عن الكثير مما يحلّ بنا. نعلم انها لن ترتاح إلا باسقاط السلطة التي قامت بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري.
لكننا نعلم أيضاً ان المعركة مفتوحة بين واشنطن وطهران على امتداد الشرق الأوسط، وان واشنطن تخسر الكثير من اوراقها السياسية والعسكرية والاقتصادية، دولياً واقليمياً، واننا لا نريد انفسنا ورقة في استراتيجية اميركية لمواجهة الثنائي السوري – الايراني، استراتيجية أَسقطت الكذبة الديموقراطية، وراحت تعمّم الفوضى لتوليد شرق أوسط "جديد" لن يكون جديده سوى المزيد من الدموع والحروب والتفتيت والدويلات المذهبية. لا نريد ذلك أبداً، لانه ليس من قناعاتنا، وليس من مهمتنا، وليس من مصلحتنا، ان ندع واشنطن (صاحبة التاريخ في دعم الديكتاتوريات ورعاية التوسع الاسرائيلي واجهاض كل مشروع عربي تحرري) تستخدمنا وقوداً لمعركة تأكيد هيمنتها على العالم.
لذلك، ينبغي على الاكثرية الاستقلالية التي بسطت يدها من اجل "تسوية تاريخية" لبنانية شجاعة، ان تصوغ تسوية تاريخية لبنانية – سورية تكون بديلاً من الاستغراق في المزيد والمزيد من استدعاء مظلة دولية، والمزيد المزيد من القطيعة السورية – اللبنانية.
ينبغي ان يخرج من الاكثرية قائد تاريخي يقرّر كسر الحلقة الجهنمية من العداء، يكون مدعوماً بمظلة عربية، وحاسماً في ارادة طي صفحة الماضي.
ما يجري انتحار موصوف. انتحار للجيش، انتحار للدستور والقوانين والشرائع والاعراف. انتحار لموقع الرئاسات الثلاث. انتحار لصيغة العيش الاسلامي – المسيحي.
المهم بقاء لبنان في وجه الأصوليات والتكفيريات. المهم اطمئنان لبنان الى سوريا، وطمأنة سوريا الى ان استقلال لبنان منعة لها، لا انتقاص منها.
هذا ليس وعظاً، ولا تبسيطاً ساذجاً، ولا تعامياً عن الحقائق الصلبة.
سيجيب كثيرون: لكن سوريا لن تقبل سوى بعودة هيمنتها، ورجالاتها. ولن تنسى أن اخراجها من لبنان تم بصورة مهينة. ولن ترتضي أية ندّية في العلاقات بين البلدين. إما ان تحكم لبنان مجدداً، وإما ان تدمّره.
حسناً.
لكن "التسوية التاريخية" اللبنانية، متى قامت، واطمأن حلفاء سوريا الرئيسيون والفاعلون ("حزب الله" وحركة "أمل") الى طبيعة السلطة الجديدة وعدم انسياقها في المشروع الاميركي، بات ممكناً (لا نقول سهلاً ) ان تخاطب هذه السلطة سوريا من موقع الصداقة، وانطلاقاً من حاجة سوريا نفسها الى لبنان كرئة اقتصادية وكنافذة على العالم والمجتمع الدولي.
ينبغي اجتراح أي تسوية مع سوريا، مهما بدا الامر مستحيلاً.
المستحيل الوحيد هو استمرار هذا العداء المدمّر، الذي يقود لبنان وسوريا معاً الى الوادي.
فهناك، في قعر الوادي، عويل وجثث فقط.


[email protected]

النهار
(198)    هل أعجبتك المقالة (200)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي