خرج الجُرَذُ من الخمَّارة مُطفَأ الجسم، متَّقدَ المشاعر، فارغَ الجيب، وراح يسير وئيداً في الزقاق المتعرِّج المظلم، وكانت الأضواء الخافتة الهاربة من الخمَّارات تُريه الطريقَ بصعوبةٍ بالغة.
يا لها من أيامٍ عصيبةٍ تمرُّ عليه!... فالمدينة النظيفة حرمَتْهُ النفايات، وجعلَتْهُ جُرَذاً متحضِّراً يكسب رزقَه بعرقِ جبينه، ويسحب القمةَ من فم السّبع.
ألا ما اشدَّ حماقتَهُ!... فلو أنَّه ذكيّ يقدِّرُ عواقبَ الأمور لادَّخر رُزَماً كثيرةً من مختلف أنواع العملات، لكنَّه بدلاً من ذلك كان يتسلَّى يقرْضها، وتفتيتها ضارباً عرض الحائط بقول الآدميّين: (خبِّئ قرشَكَ الأبيض ليومِكَ الأسود).
عرفَ في حياته الكثير من مخابئ المال، وتمَّت أمامه صفقاتٌ مهمَّة في بعض الفيلاّت إلا أنه لم يكن يفهم شيئاً من حوار المتفاوضين:
- اضمن لي الصفقة، ولك خمسة عشر بالمئة.
- لا يا صاحبي، فالآخرون عرضوا عشرين، ولم أقبلْ.
- أدفعُ لكَ خمسةً وعشرين.
- اتَّفقْنا... قدِّمْ عرضَكَ بقيمة أربعين مليوناً، وأنا أتكفَّل ببقيَّة الإجراءات.
- الآن صار الجُرَذُ يدرك معنى هذا الحوار الذي سمعَ الكثير منه، ولكن ما الفائدة؟ إنه اليومَ شقيٌّ، خالي الوِفاض بعد أن سُدَّت الجحور بالإسمنت والزجاج، وأُحيطت البيوت بالمصائد الإلكترونية، وامتلأت (بالهررة السِّمان)...
ليس أمامه سوى متابعة العمل جُرَذٍ مُنْعَمٍ شغَّله بعض الهررة السِّمان، وهو بدوره يستقدم جرذاناً عملهم الأساسي إتلاف بعض الأشياء في أماكن محدَّدة لصالح الهررة... اللعنة عليه فقد نسِيَ جُرَذيَّتَه، واتَّفقَ مع الهررة على أبناء جنسه، فهم يعملون طوال النهار، ولا يُدفع لهم الأجر إلا بالقطَّارة.
تداعتِ الأصوات في خيال الجُرَذُ الفقير، وتذكَّر بحرقةٍ أنَّه طلَّق زوجتَه بسبب الحرمان، فوضعَ الحقَّ كلَّه على الجُرَذُ المُنْعَم، ولكنَّه غيَّرَ رأيَه، فوضعَ الحق على الهررة السِّمان، وهنا استيقظت في نفسه العداوة الأصلية، فاشتدَّ غضبه، وأنساه السُّكْرُ حجمَه الحقيقي، فراح يصرخ في زقاق الخمَّارة: (اخرجوا إليَّ أيها الهررة الجبناء... سأحطِّم رأسَ أكبر واحدٍ فيكم... سأمزِّقه بأسناني الحادَّة وآكلُه...)
وكان في الجوار هرٌّ أسود ذو عينَيْن حمراوَيْن تقدحان شرراً فنادى: (ماذا تقول أيها الجُرَذُ الحقير؟).
سمعَ الجُرَذُ الصوتَ، ولم يرَ من الهرِّ سوى عينيْه المضيئتَيْن في الظلام، فانقطعت نياط قلبه، وكان لا بدَّ من معالجة الموقف بسرعة، فقد ذهبت السَّكْرة، وجاءتِ الفَكْرة:
- أنما لا أقصدكَ يا سيدي.
- ومن تقصد؟
- أقصدُ هررةً آخرين.
- ألا تعلم أنَّ الإساءةَ إلى هرٍّ واحدٍ هي إساءةٌ إلينا جميعاً؟!...
- أدري... أدري، ولكنني قصدْتُ الهررة في البلدان الأخرى.
- أيها الغبيّ!... الهررة متآخية بغضّ النظر عن بلدانها...
- صَدَقتَ يا سيِّدي فسامحْني.
- سأعفو عنكَ هذه المرّة، فاذهبْ إلى العمل باكراً، وإيَّاكَ أن تعودَ إلى الخمَّارة...
- أمرَكَ يا سيِّدي، سأستيقظُ في السَّحَر، وأسابقُ الريح إلى العمل لأحوزَ على رضاكَ ورضا الهررة السِّمان أينما كانوا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية