أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جدلية الداخل والخارج في الثورة السورية ... محمد الملحم

.تقرع أسماعنا بين فينة وأخرى نغمة نشاز يصدرها بعض الإخوة الثوار العاملين في داخل سورية، وَقْعُ مفرداتها في النفس أشد من وقع قذائف المدافع والدبابات على رؤوس الآمنين. فحواها الانتقاص أشد ما يمكن من أبناء الوطن الذين قدر الله أن يكونوا خارجه إبان هذه الثورة المباركة، وتجد أحدَهم ينهال بسيل من الألفاظ القاسية منتهجاً التعميم في كلامه غير عابئ بما يورث كلامُه من آثار سلبية قد تورث هي الأخرى ندوباً وجراحاً غائرة يطول شفاؤها واندمالها... من ذلك قولهم: (ثوار المكيفات و الإنترنت، ومن في الخارج لا يحق له أن يتكلم في تقرير مصير الوطن، ومتسلقون على الثورة.)، عداك عن التهم الشخصية والتخوين وغير ذلك مما لا يليق ما هو أقل منه بالثائر...!
وفي المقابل نلمس من بعض الإخوة في المهجر بعضاً من عدم تقدير لفداحة ما يجري لأهلنا في سورية، وهو ما ينعكس على تعاطيهم مع الثورة من قلة المساهمة فيها والتفاعل معها و النظر إليها على أنها قد تكون فورة وتنتهي...!، ومنهم من كان ينظر إليها على أنها حركة أناس بسطاء دهماء، بالإضافة إلى انصراف بعض السياسيين لتحقيق مكاسبهم السياسية والحزبية.
إن أسوأ ما في الموضوع هو أسلوب التعميم من الطرفين؛ فقد يكون كلام كِلا الطرفين صحيحاً؛ ولكنَّ ذلك لا ينطبق إلا على قلة قلية من هنا أم من هناك. إن استمرار هذه النظرة بين الطرفين لن تزيد الأمر إلا تعقيداً، وجدير بكل طرف أن ينظر إلى الطرف الآخر على أنه مكمل له لا منافس، بعيداً عن السيطرة وحب الاستئثار من أيٍّ كان. فقد ذكر ربنا – سبحانه – المجاهدين بالنفس والمجاهدين بالمال، ولكل دوره وفضله، كما ميز بين المجاهدين والقاعدين في كتابه العزيز، فقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) ]النساء
إن ما يحصل في سورية الجميع مشتركون فيه ويتحملون تبعاته (داخلاً وخارجاً) فريق بصمته ونفاقه، وآخر بخوفه وجبنه، كل ذلك مكَّن للطغيان وزاد من بطشه. ثم لما قامت الثورة وانقدحت شرارتها في الداخل، وتحمَّل الناس هناك تبعاتِها وسقط منهم الجريح والشهيد، وهدمت البيوت وشُرِّد الناس. لم يقف المهجَّرون مكتوفي الأيدي؛ بل كانوا صدى لآهات إخوانهم وصرخاتهم، وكان منهم بذل وإنفاق وسعي وتنسيق في كل المجالات الإعلامية والحقوقية والإغاثية، وكانوا جسراً لعبور القضية إلى العالم من خلال تسخير علاقاتهم وإمكاناتهم وأموالهم...
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: لولا الخارج لما استمرت الثورة في السورية. في الخارج أناس خرجوا من أموالهم ولم يستبقوا إلا ما يقيم أَوَدَهم. وهم لا يرون ذلك منَّة وتفضُّلاً بل حقاً عليهم وواجباً؛ فالبلد بلدهم وفيه أهلوهم وإخوانهم. إنني أكاد أجزم أنه لا يوجد أحد من الثوار المغتربين خارج سورية لم يُصَب بقريب أو غالٍ ؛ فكثيراً ما أقيمت بيوت العزاء في الخارج أقامها أبناؤهم أو آباؤهم في المغترب. بل هناك أناس تأخرت مناطقهم بالثورة فلم يضنوا على إخوانهم في المناطق الثائرة بدعم من أي نوع كان. والشواهد كثيرة ، واللجان و التنسيقيات التي شُكِّلت لدعم الداخل كثيرة وفيها خير كثير. ومع ذلك نقول: إن كان ثمة عتبٌ فهو على قلة قليلة أبعدها طول الاغتراب عن وطنها وحدَّ من أشواقها إليه، أو على قلة مريضة دنيئة النفوس طفيلية تذكر بحجمها، وهناك من لا يتناسب بذله مع حجم ثروته أو أنه يوظف ماله لمأرب سياسي له أو مذهب... أما الكثرة فلا. ولا يزال المغتربون مطالبين ببذل أقصى ما يمكن لنصرة أهلهم.
أما أنتم يا أهلنا وعزوتنا في الداخل فعلى رِسْلكم، فلا يجاري بذلَ محجم دمٍ طاهر منكم ملءُ الأرض ذهباً، فما بالكم بأنهار الدم وتلال الأشلاء وعظيم التضحيات... إن من حاله حالكم يرى أي بذل مهما عَظُم قليلاً، ولكن جميل بالثائر الذي يجود بنفسه وماله أن يُري الله منه التواضع والإخبات؛ ولعل الله اختاركم لتكونوا ستاراً لقدرته يهدم بكم دولة الظلم، فمن قضى منكم فهو شهيد ومن أصيب فأجره على الله، ولا تفسدوا أعمالكم بالمن والأذى.
لكم أن تقولوا ما تشاؤون وأنتم صادقون؛ ولكن ضعوا في حسبانكم أنه ليس كل من في الداخل كان ثائراً؛ بل هناك كثيرون وقفوا على الحياد، وآخرون كانوا من المثبطين فضلاً عن العملاء، وبين ظهرانيكم طلاب سلطة وجاه ومستأثرون بالمجد, ولكنهم حفنة قليلة لا تعكر صفو نواياكم، ولا تنال من عظيم بذلكم، فأنتم فيكم الشرف والنبل لا يخفى...
ثمة أمر مهم في نظري على من يخوض في هذا الشأن من الطرفين مراعاته، وهو أن المغتربين متفرقون في أصقاع المعمورة، وكلٌّ منهم قد اكتسب من طباع البلاد التي يعيش فيها بالقدر الذي ابتعد فيه عن سجايا وطباع قومه، وأن كثيراً منهم – بسبب إرهاب النظام ـ الحسرةُ تأكل قلبه لأنه لا يعرف سورية إلا من خلال الخريطة أو شاشات التلفاز. فعلينا وضع الأمر في سياقه حتى لا يكون في كلامنا جور أو ظلم.
إن المعركة تستدعي منا جميعاً غضَّ الطرف عن السلبيات ما استطعنا، وإظهار الإيجابيات وتسليط الضوء عليها ورؤية النصف المليء من الكأس، وافتراض سلامة النوايا، وأن نحصر الخطأ في صاحبه؛ لا أن نعمم ونبخس الناس جهودهم وبذلهم.

(116)    هل أعجبتك المقالة (110)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي