تتوالى الانشقاقات العسكريّة والدبلوماسيّة عن نظام الأسد شاقوليًّا وعموديًّا، فتلهفنا الدائم لسماع الجديد في نشرات الأخبار ارتبط وجدانيًّا بعاملين أولهما: متابعة الواقع العسكري الميدانيّ ونهج الكفاح المسلح والبطولات التي يسطرها الشعب السوريّ والجيش الحر يوميًّا، وثانيهما: انتظار تضعضع النظام وأركانه من خلال الانشقاقات المتواليّة والتي كللت بانشقاق أمني رفيع المستوى مثله انشقاق العقيد يعرب الشرع رئيس فرع المعلومات في الأمن السياسي – ابن عم نائب الرئيس فاروق الشرع- والذي يحظى بنفوذ واسع داخل المؤسسة الأمنيّة كونه كان جزءًا من فريق سياسيّ وأمني أعدّ عمليّة توريث الحكم عام 2000 وأشرف على البعد القانوني المتعلق بتعديل الدستور السوري أنذاك.
أما الحدث الأبرز فقد مثله انشقاق رئيس الحكومة السوريّة الجديدة رياض حجاب ووصوله وعائلته إلى الأردن، والذي شكل أكبر صفعة سياسيّة للنظام منذ بدء الثورة، وكشف عن اختراق أمنيّ وسياسيّ لهياكله بشكل مكّن حجاب من التخفي وعائلته ثم الانشقاق عبر عمليّة معقدة إلى الأردن. الأمر الذي سيفتح الباب مستقبلاً لانشقاق عديدة وعلى مستويات عاليّة نتيجة توافر القدرة على تأمين عائلات المسؤولين وذويهم التي تؤرق العديد منهم وتشكل كوابح للانشقاق وترك مركب النظام الغارق في جرائمه، والذي يحرك مجاديفه عكس التيار وقوانين التاريخ بمساعدة دول إقليمية وقوى دوليّة عظمى وعلى رأسها روسيّا، التي تجاهر الثورة السوريّة عداءً وتمنع تبلور إجراءات دوليّة وعربيّة رادعّة ضد نظام بشار الأسد.
لدى حصول أي انشقاق عاليّ المستوى سياسيًّا كان أم دبلوماسيًّا وعسكريًّا تستحضرني مقالة مطولة كتبها وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف قبل شهرين بعنوان " على أي جانب من التاريخ" شرح فيها رئيس الدبلوماسية الروسيّة أسبابًا ادعى أنها موضوعيّة لدعم النظام السوريّ منها: عدم حدوث انشقاقات سياسيّة رفعيّة، وخلو الانشقاقات العسكريّة الحاصلة من الرتب العليّا، وعدم حدوث انشقاقات في السلك الدبلوماسي، إضافة إلى قوة السيطرة والتحكم للنظام أمنيَّا وعسكريًّا على مساحات واسعة من التراب السوري.
لم يرغب الوزير الروسي الإيضاح صراحة عن أسباب دعم بلاده للنظام السوريّ والتي تتمخض في أسباب جيوستراتيجيّة بحتة تفوق التعاون العسكريّ والتبادل الاقتصاديّ الذي دأب المحللون السياسيون السوريون يرددونها على وسائل الإعلام كأسباب تجعل موسكو تتمسك بحليفها رغم أنه يواجه ثورة شعبيّة فريدة بشموليتها واتساعها عن الثورات الأخرى، وفريدة في جذريتها ومدتها وأسطورة نضال شبعها عن أي ثورة شهدناها قبل منذ الثورة الفرنسيّة مرورًا الانقلاب البلشفي والثورة الاشتراكيّة عام 1917 وصولاً إلى الثورات العربيّة.
ما يحدد موقف روسيًّا إذًا هو نظرتها إلى إمكانيّة تعزيز موقعها في النظام العالميّ في وجه الولايات المتحدة الأمريكية من البوابة السوريّة التي تتحكم بملفات عديدة في الشرق الأوسط، إضافة إلى أهميّة الموقع الجيوسياسيّ لسوريّة والذي استفادت منه لبناء قاعدة إمداد عسكريّة في طرطوس ربطت قاعدتها في البحر الأسود " سيفاستفيول " مع المياه الدافئة. وما يجعل الموقف الروسيّ يبدو قويًّا ومتماسكًا هي توجهات الرئيس الأمريكي باراك أوباما وقواعد السياسة الخارجيّة الأمريكيّة التي أرساها مذ وصوله إلى البيت الأبيض والقائمة على الانفكاء عن التدخل العسكري المباشر في العالم.
يتضح لنا، بالعودة إلى مقالّة لافروف " على أي جانب من التاريخ"، أن الذرائع التي ساقها لافروف لدعم النظام السوريّ هي أسباب واهيّة لا تخرج عن محلل سياسيّ مبتدئ، فكيف تخرج عن وزير خارجيّة لدولة تدعيّ أنها عظمى وتسعى لمكانتها القوميّة في سلم النظام الدولي الراهن. وبرأينا أن روسيّا التي اعتادت التحالف مع الخاسرين ستستمر في دعمها للنظام السوريّ حتى ترجح كفة الصراع عسكريّا على الأرض لصالح لثوار والمقاتلين. عندئذ فقط يمكن الحديث عن تغيير محتمل في الموقف الروسي من الثورة السوريّة.
لكن هذا التغيير الذي سيأتي فجائيًّا وسريعًا سيطيح بكل تأكيد بأركان في الإدارة الروسيّة الحاليّة ، بحيث تكون " كبش الفداء" الذي يبرر هذا التغيير، ولعل أبرز المرشحين وقتها هو وزير الخارجيّة الروسي الحالي سيرغي لافروف. فانتصار الثورة السوريّة المؤكد، والذي تدلل عليها الانشقاقات الحاصلة، والانتصارات الجاريّة على كامل التراب السوري، سيكون نهاية التاريخ الدبلوماسي بالنسبة له، كونه تعمد التخيير صراحة على أي الجانبين يقف، ففضل الوقوف ضد إرادة الشعب السوريّ الذي يدحض يوميًّا طروحاته ويفكك النظام الأمني الذي ادعى لافروف أنه متماسكًا وعصيّا عن الانشقاقات والتضعضع.
كاتب وباحث سوري - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية