قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر......وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
تربى العديد من أبناء الشعوب التي تحكمها الأنظمة "الممانعة" على فكرة أن الغرب "منافق" ويكيل بمكيالين ,فعندما يتعلق الأمر بنا وبحقوقنا يتجرد هذا الأخير من قناع الحضارة المزعومة بينما يستحيل أباً حانياً عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
في الحقيقة يعتبر الجانب الإنساني لأي شأن داخلي عاملاً أساسياً محركاً للرأي العام في دول العالم الحر ,شعوب هذه الدول شديدة الحساسية فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والحريات والتي تعتبر خطوطاً حمراء لا يجرؤ أحد على تجاوزها, ولما كان إرضاء دافع الضرائب هو الهدف الأساسي لأي من ساسة الدولة المنتخبين , عادةً ما تشكل الشئون الداخلية كالصحة والتعليم والمستوى المعيشي العامل الأساس الذي يتم من خلاله تقييم مدى كفاءة هؤلاء الساسة.
يختلف الأمر طبعاً عندما نتكلم عن السياسات الخارجية حيث تنحصر مهمة القيادات في حماية مصالح الشعوب حتى لو تطلب الأمر غض النظر أحياناً عن بعض الممارسات غير المقبولة في دول تربطها مع دولهم مصالح تجارية , هذا ما يفسر تواجد مجموعات الضغط في أغلب هذه الأنظمة والمكونة عادةً من تجار وصناعيين وممثلي جمعيات ذات حضور فعال في المجتمع ,تشكل هذه المجموعات مصدر أساسياً من مصادر تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين وعاملاً ضاغطاً في تشكيل السياسات الخارجية.
هذا ما يفسر تحمل الغرب لحماقات شخص مريض نفسياً كالقذافي في مقابل الحصول على امتياز استخراج ثروات ليبيا النفطية , ويفسر أيضاً سكوت الغرب عن مجاهدي طالبان طالما أن كل ما يقوم به هؤلاء هو إزعاج الروس وإعادة بلدهم إلى العصور الوسطى, طبعاً تغير كل هذا عندما "وصل البل لذقنهم" وحدثت كارثة 11 سبتمبر.
لا يعتبر العالم الحر هذا نفاقاً باعتبار أن الشعوب هي من ترتضي لنفسها نوعية الأنظمة التي تحكمها وعليه فلا يجب التدخل بين الشعوب وأنظمتها باعتبار أن "القاضي راضي " وأن "كل عنزة معلقة من عرقوبها", كما أن التدخل في الشئون الداخلية للدول يعتبر وفق القانون الدولي خروجاً عن المعاهدات الدولية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.
أضف إلى ذلك الحساسية الكبيرة التي تعانيها بعض الشعوب إزاء التدخل الخارجي في شئونها (حتى لو كان هذا التدخل يصب في مصلحتها أولاً وأخيراً !) ما ينتج في أغلب الأحيان ردة فعل عكسية تؤدي إلى المزيد من الالتفاف حول الأنظمة القمعية والتعامي عن أخطائها وحماقاتها.
بهذا المنطق كان الغرب داعماً لأنظمة مستبدة كنظام بن علي في تونس ومبارك في مصر طالما لعبت تلك الأنظمة دور الخادم المطيع , وحالما أحس أن الكفة قد مالت والموازين قد تغيرت, عاد بواقعيته المعهودة ليبني علاقات مع الإسلاميين عندما استلم هؤلاء الحكم بعد ثورات الربيع العربي, الغرب الذكي عرف أن من الأفضل له أن يحافظ على مصالح دائمة وليس أصدقاء دائمين.
على قاعدة المصالح المشتركة تتعامل الدول المتحضرة مع بعضها البعض ومع دول العالمين الثاني والثالث على حد سواء, وهو برأيي السياسة الصحيحة التي يجب على ساسة سوريا المستقبل إتباعها , هذا إن أردنا أن يكون لنا مكان بين هذه الدول .
كل ما سبق يمكن أن يشكل تفسيراً أولياً لتصرفات دول العالم الحر تجاهنا , أما تفسير طريقة تعاملها مع إسرائيل فهذه قصة طويلة سأحاول اختصارها في هذا المقال على أمل التفصيل في مقالات لاحقة.
تعتبر حماية المستضعفين من الواجبات الرئيسية للدولة , وعليه تخصص أرقام هاتفية في الدول المتحضرة ليتصل عليها الأطفال الذين يعانون من عنف ذويهم ليصار إلى تحويل الوصاية من الأهل إلى الدولة التي تتولى رعاية الطفل حتى يكبر , بنفس المنطق نجح ساسة إسرائيل الأذكياء في إظهارها للعالم كحصن لبضع ملايين من الديانة اليهودية ذات الماضي المليء بالاضطهاد والحرق والتنكيل محاط بمئات الملايين من العرب المسلمين والذين تجتاحهم كراهية وحقد ذو طابع ديني بحت تجاه تلك الأقلية.
صحيح أن الغرب العلماني ينظر للأديان بشكل عام على أنها مجرد أدوات لتبرير وتمرير بعض السياسات لا أكثر ,وأن ساسته يعرفون حق المعرفة أن الجدل الديني حول أحقية قيام دولة إسرائيل تاريخياً على أرض فلسطين هو جدال عقيم لا يعدو على أن يكون ذريعةً يتشدق بها متشددوا اليمين الإسرائيلي ليصبغوا بها الشرعية على كيانهم الوليد.
إلا أن ذلك كله لا يعني ترك هذه الدولة الوليدة التي تملك مجموعات ضغط هي الأقوى ضمن برلمانات الدول الغربية لتلاقي مصيرها الأسود الذي تتوعدها به الشعوب المحيطة , تكفي التصريحات العنصرية المخجلة للأحمق نجاد عن رمي الإسرائيليين في البحر و إنكار حدوث المحرقة لتشكل تبريراً مهماً لضرورة تسليح هذه الأقلية المسكينة وحمايتها!
لقد ساهمنا للأسف ومن حيث لا ندري في تكوين هذه الصورة النمطية حين عالجنا الخطأ بخطأ أكبر يوم تركنا مشاعر الكره والحقد الديني تجاه اليهود تسري في مجتمعاتنا كرد فعل على قيام دولة إسرائيل حتى كادت معظم الدول العربية تخلو من المكون اليهودي الذي لطالما كان جزءاً لا يتجزأ من الفسيفساء المكونة لشعوب المنطقة(1) والذي لو تمسكنا به لأثبتنا للعالم أجمع أن صراعنا مع إسرائيل هو قضية حق وليس حرباً دينية.
وهكذا ,حين كنا نكبر ونهلل لحصول "العملية الاستشهادية" في ذلك الملهى الليلي في تل أبيب ,كانت أغلب دول العالم تندد بهذه "العملية الانتحارية" التي قام بها "متشددون إسلاميون" ضد مدنيين "عزّل" , وبدلاً من أن ندعم نضال اليسار اللبناني ,احتكر السيد "أبو صواويخ" وحزبه "المقاوم" العمل المسلح في جنوب لبنان وحلت شعارات "لبيك يا نصر الله" و "هيهات منا الذلة"مكان أغاني فيروز الحماسية , وبعد أن كانت الكوفية الفلسطينية أيقونةً للحرية صارت رمزاً للإرهاب.
سرعان ما شكل انتشار الأفكار القومية العنصرية الناصرية منها و البعثية في الشرق الأوسط الضربة القاضية لمشروع بناء الدولة الحديثة , فبعد التطهير الديني مارسنا التمييز العرقي مع الأقليات غير العربية (2) وهكذا جعلنا إسرائيل تبدو للعالم دولة مواطنة بامتياز عند مقارنة الحقوق التي يتمتع بها فلسطينيوا 48 في إسرائيل بالحقوق التي يتمتع بها الأكراد في سوريا والعراق والأمازيغ في المغرب.
و كأن كل المصائب التي حصلت لم تكن كافية ,فقد التفت معظم المجتمعات العربية بغباء حول شخصية القائد البطل الأسطورة في حين ركز الإسرائيليون على بناء دولة ديمقراطية تقوم على مؤسسات حقيقية ,وهكذا تحولت دولنا إلى مزارع لدكتاتوريات لم يعرف التاريخ لها مثيلاً في الحمق والدموية بينما ظهرت إسرائيل للعالم كواحة من الديمقراطية.
الخلاصة أن ازدواجية المعايير أو النفاق هو بالضبط ما قمنا به طيلة الأربعين عاماً الماضية حين اشتكينا من سياسة التمييز العنصري الذي يعانيه الفلسطينيون وتعامينا عن تصرفاتنا العنصرية مع الأقليات العرقية في دولنا,وحين طالبنا بحل مشكلة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية التي تبدو كمنتجعات ترفيهية مقارنةً بسجوننا التي تغص بمئات المعتقلين السياسيين.
هل نتوقع من العالم بعد هذا أن يعاملنا نحن الذين سكتنا عن موت الآلاف في مجزرة حماة كما يعامل شعباً شن حرباً مدمرة لاستعادة اثنين من جنوده!! , رحمك الله أيها المعتصم ... أين كنا وأين صرنا.
ختاماً أقول :لم يكن لأحد أن يعتبرنا "أولاد البطة السوداء" ما لم نكن نتصرف على أننا كذلك .
(1) اقرأ المزيد عن أملاك اليهود في حي الجميلية بحلب.
(2) اقرأ المزيد عن مشروع الحزام العربي في منطقة الجزيرة في زمن جمال عبد الناصر وسحب الجنسية من آلاف الأكراد السوريين.
المدينة المنورة في 30.7.2012
[email protected]
http://www.facebook.com/aftera.longsilence
أبناء البطة السوداء .. زياد المحمود

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية