ما يميز النظام السوري رغم حماقاته المتكررة عن قوى المعارضة السياسية هو امتلاكه للعديد من الخيارات "التصعيدية" التي يلجأ إليها وقت الحاجة في حين تفتقر المعارضة "المجلس الوطني خصوصاً" لأي بدائل أو طرق ناجعة للتعامل مع المستجدات فصار الإرتجال و ردود الفعل سلوكها العام منذ بداية الثورة..
بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى حدوث مجازر في سهل الغاب و حمص تحديداً إلا أن تعمد النظام لإرتكابها بهذه الوحشية له أسبابه العديدة, و في حين تساهل النظام مع المتظاهرين من الكرد و الدروز و المسيحيين و بعض المناطق الأخرى عمد النظام إلى التصعيد مع متظاهرين في مناطق أخرى و إسالة الدماء و نزفها بشكل كبير .. من أجل زرع الفتنة و تعزيز حدود الدم المتخيلة و التي يراد تحقيقها على الأرض..
استخدام الأسلحة الكيماوية جزء من سلة خيارات يلجأ النظام للتلويح بها و ما أثير في الأيام الأخيرة عن تغيير مواقع لتلك الأسلحة لم يتبعه سؤال أين هي تلك المواقع الجديدة .. و قلة هم من يمتلكون الإجابات عن ذلك..
عمد النظام منذ البداية إلى إثارة الفتنة الطائفية و تحويل الثورة إلى صراع بين أطراف عدة و قد عرف عنه دعمه و اختراقه لجموعات سلفية و أخرى تابعة للقاعدة و تحكمه بها بدون علمها و كعادة الاستبداد أنتج النظام خطابا دينيا متعصبا و متزمتا يعتمد الفكر التكفيري و السلوك الطائفي الذي تسهل إثارته و استفزازه وقت الطلب ليظهر النظام بأنه ضحية و يقوم بالدفاع عن نفسه و عن الأقليات عموماً و العلويين خصوصا .. و سوق نفسه على أنه صمام الأمان في المنطقة و بدونه سوف تكون سوريا و المنطقة في دمار و خراب ..
النظام أكثر ذكاء من أن يعلن بشكل صريح قيام دولة مستقلة تحت أي مسمى في الساحل لكن بطبيعة الحال و حينما ينسحب آل الأسد بقواتهم و شبيحتهم و قواعد الصواريخ و الأسلحة الكيماوية التي بدأ بنقلها إلى هناك و مواقع أخرى تحت سيطرته " يقال إلى حزب الله " سوف يصير قوة موجودة بحكم الواقع , و في السياق ذاته فإن قيام مجازر ضد السنة في مناطق الاختلاط الديني و المذهبي في حمص و حماة و أجزاء من إدلب سوف يولد عاجلا أم آجلا ردود فعل تستوجب استقدام قوات فصل دولية , فتصير دولة الساحل الوليدة التي سيستمر النظام في تسميتها الجمهورية العربية السورية حالة لا يمكن نكرانها.
بغض النظر عن احتمالات النجاح لهذه الدولة الوليدة إلا أن النظام لن يتردد في تشكيلها و يعزز من ذلك تعاظم وجود عناصر للقاعدة التي تعلن الإمارات الإسلامية و تحمل خطابا تكفيريا طائفيا , ما يجعل من الرأي العام الموجود في الساحل مؤيدا لمثل هذا الكيان خشية عمليات إنتقامية أو ما يمكن أن يطلق عليه " إبادة العلويين " التي روج لها النظام بشكل ممنهج منذ بداية الثورة.
روسيا التي تريد ميناء على المتوسط و التي خسرت أوراقها لدى عموم الشعب السوري سوف تكون مهتمة جدا بدعم مثل هذا الكيان و هذا ما يتناسب مع اسرائيل التي تشجع على الانفصال ..
سوف يرى العلويون الانفصال مطلب حق بعد محاولات بعض الأحزاب الكردية تشكيل دولة مستقلة أو بحكم ذاتي مدعوم من خزان بشري كردي مجاور لن يقصر في ضخ المزيد من السكان في شمال سوريا للعمل على تغيير البنية الديموغرافية و العمل على تهجير العناصر و المكونات الأخرى من قبائل عربية و سريان و آشوريين و غيرهم من بقية السوريين .. في الوقت الذي تتكاثر فيه الإمارات الإسلامية التي ستقوم بإعلانها الجماعات المخترقة من قبل النظام و المافيا العالمية " القاعدة ".
هذا ما يضع العلويين أمام تحدٍ وطني حقيقي كبقية السوريين ..
ما يسعى له النظام وآل الأسد تحديداً تعزيز أوراقهم التفاوضية و إيجاد المخرج عبر الدخول في مؤتمرات و مفاوضات و اتفاقيات شبيهة باتفاق الطائف و يقدم نفسه على أنه ممثلا للمكون " العلوي " مستندا على الدعم الروسي اللامحدود و ذلك في خضم الانقسام الحاصل في سوريا حيث الأخوان يقدمون أنفسهم كممثلين عن السنة و هناك من يقدم نفسه ممثلا للعشائر في حين لدينا من يقدم نفسه ممثلا عن المكون الكردي و مؤخراً هناك ممثلين عن التركمان و غيرهم.
إن تجفيف منابع العمل السياسي المدني و تغييبه عبر عقود أدى بالمجتمع ليجد نفسه منتمياً لطوائفه و أعراقه و جماعاته المحلية و المناطقية ما يهدد بإزالة سوريا عن الخارطة في غياب الانتماء الحقيقي لها لتحل محلها الحدود التي سيرسم خطوطها الدم ..
في وسط هذا السيناريو المرعب فإن الحديث عن الدماء و الضحايا الأبرياء و تهديم البيوت و الأحياء و المدن و نهب الآثار و الممتلكات العامة و الخاصة سيغدو ترفاً لا يمكن الوقوف عنده .. خاصة إذا ما علمنا أن إمكانية استخدام الأسلحة الكيماوية صار أمراً متوقعاً أكثر من أي وقت مضى...
لا يمكن من خلال مقال كهذا يستعرض المخاوف و الاحتمالات القائمة إيجاد أي حلول إلا أن الخلاصة تكمن في إعادة نبض شعارات الثورة الأولى و توحيد الصفوف من جديد و طرد الغرباء و الدخلاء و تدعيم الخطاب الوطني لنتمكن من النظر جيداً في واقع ثورتنا و مطالبها و كيفية تجاوز الألغام الكثيرة الموجودة في طريقها .. و العمل على اقتلاع التمثيل السياسي على أساس المكونات الضيقة العابرة لمفهوم الوطن و الوطنية ..
ما أوقع النظام في هذه السلسلة المتلاحقة من الخسائر هو تجاهله للمتغيرات و استمرار نكرانه لشرعية المطالب الشعبية بل هو أنكر وجودها من الأساس و ما يتوجب علينا جميعا مواجهة الواقع و أن نفترض كل السناريوهات و أن نحتمل الأسوأ و أن نبحث جدياً عن الحلول الممكنة ..
إن حدود الدم ترسم الآن .. فإما أن نرسمها وفقا لإرادة شعبية تعبر عن الثورة السورية و مطالبها أو فإن الحموي سيحتاج لتأشيرة دخول للوصول إلى جبلة أو الديري سيحتاج لمثلها للوصول إلى الحسكة .. هذا إن منحت له ..
فاصل أخير:
أن يقوم أحد السياسيين بتقديم نفسه كمندوبا و ممثلا لطائفة ما أو عشيرة ما أو مكون ما أسهل بكثير من أن يقدم نفسه كزعيم وطني .. التحدي الحقيقي أن يكون السياسي سورياً هذه الأيام .. أن يكون عابراً للطوائف و العشائر و القوميات و المناطق ..
*صحفي و ناشط سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية