يصح أن يوصف عميد الادب العربي الراحل الدكتور طه حسين بمالئ الدنيا وشاغل الناس، مثله مثل ابي الطبيب المتنبي قديما وحديثا. وبصرف النظر عما إذا كان المرء معجبا به، منحازا إليه، مقدرا مواقفه ودوره، أم كان على العكس من ذلك لان له اعداء كثيرين، فلا احد ينكر ان طه حسين شكل احد المحاور الاساسية، ان لم يكن المحور الاساسي الاول للحركة الادبية العربية في القرن العشرين.
وقد تجدد الحديث حول طه حسين مؤخرا بمناسبة صدور كتاب ضخم (عن دار الشروق)، ضم الاوراق الخاصة لطه حسين، او ما سماه محقق هذه الاوراق، الدكتور عبدالحميد ابراهيم 'الوثائق السرية'. وفيها ما لا يحصى من المواضيع التي يبدي فيها طه حسين رأيا، او يقف موقفا، مما قد يغير في قليل او كثير، صورته التي يعرفها عنه جمهور المثقفين.
وفي هذه الاوراق، او الوثائق، الكثير من الرسائل التي تبادلها طه مع الادباء المصريين والعرب والاجانب، ولا شك ان الكاتب بمجمل ما تناوله من رسائل وقضايا ومواقف يؤلف حدثا ثقافيا مهما من شأنه ان يعيد النظر، قبل كل شيء، بسيرة 'العميد'، وبثوابته وبمتغيراته.
عالم الرسائل بين طه حسين والآخرين، وعليها تنصب اكثر صفحات الكتاب، يمثل الوجه الخفي والحقيقي للحركة الادبية الحديثة.
قطب الرحى
ويلعب طه حسين قطب الرحى في هذه الرسائل. وقد اتته رسائل متنوعة من مختلف الفئات والطبقات، ومن عامة الناس وخاصتهم، ومن رجال الادب والفن والاقتصاد والادارة وصانعي القرار السياسي.
ومن هنا نجد رسائل من المكوجي والموظف الصغير والطالب الفقير، ومن ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومي زيادة، وطلعت حرب ومصطفى النحاس، والرافعي، ومكرم عبيد، وفؤاد سراج الدين، ومن كبار المشايخ ورجال الدين المسيحي، وحاخام اليهود، والمندوب السامي البريطاني، وكبار الامناء ومختلف الوزراء، ومن العالم العربي في السعودية والمغرب وتونس والسودان وسوريا ولبنان والعراق.
وهذه الرسائل في عمومها تفسر الكثير من الظواهر التي ننظر اليها من السطح دون ان نعرف جذورها ومراميها ودون ان نضعها في لحظتها التاريخية المعقدة.
وربما كان الاهم من ذلك انها تضعنا في مواجهة صفة رئيسية تمثل تركيبة نفسية عميقة، تشكل الكثير من تصرفاتنا السياسية والفكرية، وهي صفة انقسام الشخصية، فتبدو على السطح بوجه، وتبدو في الخفاء بوجه آخر. فإن كثيرا من الشخصيات التي هاجمت طه حسين، واتهمته بالخروج على العادات والتقاليد، كانت ترسل إليه في الخفاء رسائل المديح وقصائد الثناء، وتخلع عليه الالقاب العلمية، وتصفه بالريادة العلمية والاصلاحية. وهذه الرسائل سواء كانت من او الى طه حسين، ليست مجرد رسائل لتبادل المعلومات، والقاء التحيات، بل هي وثائق ذات دلالة تاريخية وأدبية.
فهي، تاريخيا، تلقي الضوء على كثير من الاحداث السياسية التي ازدحمت بها تلك الفترة، فبعضها كان موجها الى طه حسين من صانعي القرار السياسي، يعرضون ما يشغلهم امام طه حسين، وينتظرون منه النصح والتوجيه.
ملكته في التحليل
ولم يكن طه حسين من نوعية العلماء الذين ينعزلون عن الواقع حولهم. فقد كان ينغمس في التيارات السياسية والفكرية حوله دون ان يفقد ملكة التحليل والفهم ورد الامور الى جذورها الاصلية. ان رسائله الى السياسيين تكشف عن اهتمام بالمستجدات السياسية وتسمح لهبوب الرياح وتوجيه السفن بما يشتهيه الملاح.
في احدى رسائله في الكتاب، يطلب من الشيخ علي عبدالرازق ان ينبذ السياسة ويفرغ للعلم لان لديه من صفات الزعامة العلمية ما هو كفيل بأن يضعه في مراتب الرواد. ولكن طه كثير ما ينصح اصدقاءه باشياء يفعل هو غيرها على نحو مخالف. في رسائله يغري اصحابه باللهو والاستمتاع بالحياة، في الوقت الذي ينغمس فيه مع المتنبي او مع سواه من ادباء التراث. ونراه مرة ثانية يهاجم السياسة وينصح بالبعد عنها، في الوقت الذي ينغمس في تيارها حتى اذنيه.
أدبيا، تمثل هذه الرسائل سواء كانت من طه حسين أو إليه نماذج راقية المستوى تتحقق فيها العناية بالأسلوب والإيقاع النمطي والمقابلة بين المفردات والجمل وغير ذلك من محسنات نراها شائعة في أسلوب طه حسين.
لم يكن طه حسين يكتب مجرد رسالة تتحقق فيها صفة الاتصال وحسب، ولكنه كان يعتني برسائله مثلما يعتني بمقالاته. وكان الذين يكتبون إليه يحاولون أيضا ان يصلوا إلى هذا المستوى الفكري والأدبي، فلا يكتبون مجرد كلمات تنقل أفكارا مجردة بل كانوا يعتنون بألفاظهم وتعبيراتهم.
ورسائل طه حسين ذات قيمة تاريخية وأدبية، ولا تقل بحال عن مؤلفاته ولا عن معاركه الفكرية والسياسية. فهي من ناحية ذات كم كبير وتتنوع، كان طه حسين محور عصره يكتب إليه الكبار والصغار،وطالبو الحاجة والباحثون عن الشهرة. وهي من الناحية الكيفية تفسر الكثير من الظواهر التاريخية والأدبية، وتلعب من هذه الزاوية دورا يفوق ما تلعبه مؤلفاته لأنها ذات طابع سري وشخصي تلقي الضوء على ظروف هذه الشخصية التي كانت تميل إلى إخفاء ذاتها، وتضليل القارئ في سراديبها. وكان يتلاعب بالحقائق التاريخية والفعلية بهدف إبراز قدراته وتحويل القارئ إلى شيء منبهر.
وتبدو شخصية عميد الأدب العربي عملاقة من خلال هذه الرسائل. فالكثير يخلعون عليه الألقاب الجليلة، ويسيرون على نهج أفكاره، ويشبعونه في كثير من لوازمه الأسلوبية.
رفعته ا لموجة
ولم يكن السبب في ذلك قدرات 'العميد' وحدها. فإن الكثير من معاصريه كانوا يفوقونه في التحصيل العلمي والتثقيف الذاتي. ولكن السبب يعود إلى أن طه كان يتحدث بروح تلك الفترة، وكان لسانها المعبر عنها، وهي فترة غلبة المد الأوروبي، وانتصار النموذج الغربي، والنفوذ الاستعماري. فطه حسين إذا لا يتحدث بنفسه ولكن يتحدث بغيره. وكان يقف وراءه كل ما في هذه الفترة التاريخية من أصوات عالية تدعو إلى الحضارة الأوروبية. أو لنقل بعبارة أخرى إن طه ركب الموجة فرفعته تلك الموجة عاليا. في صورة ما، يبدو طه منتشيا بحياته العصرية التي يرضى عنها المحيطون به، بينما نجده في صورة أخرى منكسرا لأنه يمثل ذلك النموذج الذي تحاصره الحياة الأوروبية وتفرض عليه الانكماش.
يتحكم طه حسين في رسائله على مشايخ الأزهر، أو على المشايخ بوجه عام، وبخاصة في معرض المقارنة بين الحياة الأوروبية المعاصرة والحياة المصرية المتخلفة. تنتهي هذه المقارنة بتأكيد النموذج الغربي والحفاوة بمظاهره والسخرية من النموذج المصري الذي يقوم على دعائم من التراث العربي الإسلامي.
وقد تكرر هذا الهجوم عند طه حسين بصورة لافتة، ولم تنج منه حتى أعماله الروائية وذكرياته في 'الأيام'، ولم يكن يقصد وجه الحقيقة، أو يقف عند حد المقتضيات الفنية في الأعمال الروائية بل كان يستطرد ويوغل ويهاجم ويتهكم ويجرح، ولا يقف عند حد تصور الشخصية كمسمى إنساني بل كان يهاجمها كرمز للتراث وللثقافة المتخلفة.
هذه المقارنة بين مظاهر الحياة العصرية في أوروبا ومظاهر الحياة المتخلفة في مصر، لم يكن طه حسين يقصد بها حث المصريين على اللحاق بركب الحضارة المتقدمة، بل كان يهدف إلى التجريح والإيذاء والتهوين من التراث والتهكم من الرموز والثوابت.
ندور في فلكه
ولم يكن الأمر كذلك في بداية النهضة عند الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان يقارن بين باريس ومصر بطريقة هادئة، لا تعصف بكل شيء، وتغلب عليه الروح الحانية التي ترى شيئا جميلا في الغرب، فتتمنى أن تراه في الشرق وخصوصا ان تراثنا قد سبق الغرب في حضارته وقدم للإنسانية تلك النماذج الراقية.
ولكن هذه الروح الحانية قد توقفت عند طه حسين الذي تحول إلى عاصفة تدمر كل شيء وتسير في اتجاه هبوب الرياح، وتجد من التشجيع والترحيب ما حولها إلى نموذج تحذوه أجيال الكتاب بعد ذلك.. وقد آن الأوان لتصحيح هذه النماذج وتصويرها بطريقة موضوعية.
وتظهر 'الوثائق السرية' لطه حسين ان الكثير من الرسائل الموجهة من كبار المفكرين والادباء اليه، تبدو وكأنها تدور في فلكه.
لم تنج من ذلك رسائل الشيخين مصطفى عبدالرازق وعلي عبدالرازق. الا ان هناك نفرا قليلا من امثال العقاد وتوفيق الحكيم والدكتور محمد كامل حسين يتمردون على معطف طه حسين. فهم يجادلونه، ويعدلون من آرائه، واحيانا يعيبون عليه بعض الانحراف. وفي نبرة تحمل قدرا غير قليل من التوصية يشرح له العقاد أن الشجاعة لا تكون في الاندفاع مع الهوى واثارة الناس. ويحذره الدكتور محمد كامل حسين في نبرة لطيفة بألا يلون في صوته، ويدس في نغماته، فيفسد العلاقة بينه وبين مدام طه.. وهو يبلغها - بشرط ان يكون مخلصا - تحياته!
ويمكن وصف العلاقة بين طه والعقاد بأنها كانت من نوع صراع العمالقة. كان لكل منهما مدرسته، وكان بين المدرستين تنافس شريف لم ينحرف الى التجريح او التشهير او الحقد او الايذاء. وكان التنافس بينهما يقوم على مستوى راق تحكمه الافكار، وتتوالى فيه الاشارات الذكية، يلتقطها احدهما من الاخر ويفهم مراميها التي تستغلق على القارئ العادي، وكأنهما يتحدثان بلغة فوق لغة البشر.
وكان كل منهما يهدي مؤلفاته الى الاخر، ويتمنى في الوقت نفسه ان تتواصل مؤلفات الاخر، فكلاهما مشغول بهدف واحد، ولا يجدان من الوقت ما ينفقانه في الحسد والكراهية.
وربما كانت الرسالة الاولى من اخطر الرسائل في تاريخ حركة التنوير. فهي تكشف عن شخصية كل من العملاقين: تكشف عن شخصية للعقاد حادة الذكاء واسعة النظر، وتحلل شخصية طه حسين تحليلا ذكيا ترتد به الى منازعها الخفية.
كتب العقاد كتابا عن المعري، وعلق طه حسين على هذا الكتاب بكتاب لم يعجب العقاد. وانفعل العقاد بهذا التعليق، وجاء انفعاله على هيئة تلك الرسالة التي لخصت طه حسين تلخيصا دقيقا لم تستطعه مئات المؤلفات.
على آن العقاد، شأن الكبار، لم يهاجم طه حسين باسلوب صبياني يقوم على الشتم والتجريح، بل عرى دوافعه النفسية، واعطاها مسماها الحقيقي. فهو لا يصدر عن الشجاعة التي تقاوم هوى النفس، ولكن شجاعته من نوع الاثارة التي تدفع اليها النفس وتلتذ بها.
ولعل هذا هو مفتاح شخصية طه حسين، ان استخدمنا هذ المصطلح العقادي. فطه حسين، كما تصوره 'الايام'، هو كذلك سواء في القرية او في الازهر الشريف او في الجامعة المصرية او في باريس، يتحرك بهوى من نفسه التي تميل الى المناوشة، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة او على حساب مشاعر الاقارب والاصدقاء المحيطين به.
طه حسين وأتاتورك
عظيم من طه حسين ان يتحدى المجتمع، لكن الاعظم الا يكون وراء ذلك هوى شخصي.
هنا الفرق بين رجل يبغي النجاح ولفت الانظار، وبين رجل يبغي الحقيقة، ويسير في طريق الانبياء والشهداء.
ان طه حسين يستفز العامة، ويثير القضايا التي تصادم العقيدة، وهو يشكك في المسلمات، وهو يتخذ اسلوبا ساخرا يدفع الآخر الى ان يخاصمه ويثير الضجة حوله.
ان سر عظمة طه حسين في 'وثائقه السرية' هو التراث وسر كبوته هو حركة التغريب، فهنو اوضح رمز لحركة التغريب منذ الطهطاوي.
وحتى بداية الالفية الثالثة فقد تحدث عن باريس اكثر مما تحدث عن القاهرة، وتحدث عن زوجه اكثر مما تحدث عن امه. واشاد بالسوربون اكثر مما اشاد بالازهر الشريف. ثم نظر كل ذلك في كتابه 'مستقبل الثقافة في مصر'، وهو كتاب تربوي يضع اسس التعليم والثقافة في المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات الاخرى، وذلك بعد الاستقلال الذي كفلته معاهدة ،1936 وهي اسس تقوم في جوهرها على اقتباس الحضارة الغربية بخيرها وشرها وحلوها ومرها، على حد تعبيره!
وكان صوت طه حسين جهيرا في هذا الميدان، لا يخفيه ولا يخفف منه، بل يعلنه في مؤلفاته وابداعاته وفي مواقفه، ومع تلاميذه وفي مجالسه الخاصة، وفي رسائله الشخصية.
ويبدو ان النفوس كانت مهيأة لذلك، فان الرسائل الشخصية التي بعث بها الى طه حسين كبار الادباء والمفكرين، لم تنج رسالة من هذا التيار العنيف، حتى بعض رجال الدين وبعض الشخصيات التي كانت تبدو امام الناس في صورة من يقاوم هذا المد، تتعرى امام طه حسين وتبدو عصرية تناصر هذا المد الغربي الذي كان في حينه يعني الحضارة والتقدم والمدنية.
ويقول الكتاب ان الدور الذي لعبه طه حسين في مصر يشبه الى حد كبير الدور الذي لعبه كمال اتاتورك في تركيا، مع اختلاف نوعية هذا الدور باختلاف طبيعة كل من الشعبين المصري والتركي.
شكوى في الرسائل
في وثائقه السرية يبدو عميد الأدب العربي شاكيا حينا، ومشكوا اليه حينا آخر، هو يشكو مما حل به، او آل اليه. كما يشكو إليه الآخرون امورهم ومظالمهم.
يأتيه أديب من العراق يسأله: لم نعد يا سيدي نقرأ لكم شيئا في 'الجمهورية' منذ فترة، فيقول له طه حسين في هدوء: منذ فترة استغنوا عن خدماتي يا سيدي. علمت ذلك من خطاب وصلني بالبريد، جاء فيه ان الجريدة تستغني عن خدمات عدد من المحررين، منهم طه حسين..
ويأتيه يوما صهره محمد حسن الزيات فيحدثه عن الانفصال بين مصر وسوريا، ويجيبه طه حسين: لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا في تلهفنا ان اساس النهضة في كل بلد، واساس التضامن والتقارب هو العلم..
وفي 'الوثائق السرية' رسالة موجهة الى طه حسين من احسان عبدالقدوس وقد كتبها سنة 1966، زمن عبدالناصر، وهي قطعة أدبية حية تعكس احساس المثقفين المصريين في تلك الفترة التي سبقت نكسة 1967، وتدل على ان النكسة لم تكن بسبب اخطاء عسكرية بقدر ما كانت تخفي ورءاها هزيمة حضارية.
وطه حسين، وان رحب بثورة يوليو في البداية، لكن موقفه اختلف بعد ذلك، وبخاصة في أواخر ايامه. فقد بدا متهدما متألما، وقد اختفت ابتسامته التي كانت تملأ وجهه حتى في احلك اوقاته وهو يواجه الجماهير من اجل معتقداته..
ولم تكن الحال كذلك مع طه حسين وحده، بل امتدت لتشمل معظم المثقفين: عباس محمود العقاد وتقول بعض الصحف عنه انه رجعي وضد الاشتراكية، ويتحاشاه كثير من الناس، وينعزل في بيته.
ومن قبله يتعرض عبدالرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة، سنة 1954 لمجموعة من البلطجية المأجورين يقتحمون عليه مكتبه ويوسعونه ضربا، وهم يهتفون بسقوط الديموقراطية والمثقفين.
وقد حاول طه حسين بذكائه الاجتماعي ان يحتوي السلطة، فأخذ في بعض الاحيان يكتب مقالات في المديح، وفي بعض الاحيان يخاطب عبدالناصر بكلمة 'سيدي'. وفي كل الاحوال يحاول ان يضمن كلامه اشارات موحية من نوع ما كان يستخدمه في 'المعذبون في الارض'.
ولكن هذا الاسلوب المناور الذي يجيده طه حسين لم يعد كافيا، ولم يعد احد يصغي لصوت المثقفين، او يهتم بالايحاء والرمز، وتحولت لغتهم الى همهمة تحتوي على حروف دون معنى.
وتكشف 'الوثائق السرية' ان طه حسين الواقع هو غير طه حسين 'الأيام'، كتابه المشهور الذي روى فيه ما يشبه سيرته الذاتية.
تقدم 'الأيام' طه حسين شيئا مختلفا عما كانه في واقع أمره. فهو صانع نفسه في كل شيء، وهو محور الاحداث، ولا اعتراف بفضل لأب أو لأخ أو أستاذ. بل يذهب الى ابعد من ذلك، فيتصيد الاخطاء لمن هم حوله، ويحاول ان يرصدها ويتهكم بها.
و'الأيام' تقدمه لنا منبت الصلة عن احداث عصره السياسية والاجتماعية، وهي لا تمس هذه الاحداث الا اذا اتصلت، من قريب او بعيد، بمغامرات الصبي، وكأن هذا الصبي هو شيء فوق الاحداث، ان لم يكن هو صانع هذه الأحداث.
وكل هذا له ما يبرره في نفسية طه حسين، وليس من الواقع الفعلي. فهو في 'الأيام' يصور بطلا ملحميا يستقطب الاحداث، ويخترع المغامرات، وله من القدرات ما يصل الى حد المعجزات، التي تحوله من انسان عادي الى بطل خارق.
رسائل نسائية
وقد احتفظ طه حسين في اوراقه برسائل ثلاث شخصيات نسائية هي: مي زيادة وامينة السعيد وسهير القلماوي. وسهير القلماوي هي الوحيدة التي احتفظ طه حسين برسالة منه اليها، لعله كتبها ثم رأى ان يحتفظ بها لنفسه، فهو نوع من الرجال الذين يخفون مشاعرهم حتى عن اقرب الناس اليهم.
وطه حسين عادة 'متحفظ في عواطفه، لا يتجاوز فيها المقدار الرسمي. ولكنه مع 'سهير' يخرج عن عادته، فهو يبدأها بالمراسلة، وهو يحثها على استمرار المراسلة، وهو يودعها بنفسه قبل سفرها الى البعثة.
ورسالة طه حسين الى سهير قطعة ادبية، تحمل خصائص طه حسين الاسلوبية في التكرار، وحسن التقسيم، والايقاع الصوتي.
وهي ربما للمرة الاولى، تنقل طه حسين من موقف المتأمل للمرأة، الذي يرصدها كذكرى، او يرقبها كرمز، الى موقف المشارك الذي يصبح طرفا في المعادلة.
فالرسالة ليست حديثا عن المرأة او معها، بقدر ما هي توصيف لمشاعر طه حسين الخاصة.
الكتاب: الوثائق السرية - طه حسين
تحقيق وتقديم: د. عبدالحميد ابراهيم
الناشر: دار الشروق - القاهرة
وقد تجدد الحديث حول طه حسين مؤخرا بمناسبة صدور كتاب ضخم (عن دار الشروق)، ضم الاوراق الخاصة لطه حسين، او ما سماه محقق هذه الاوراق، الدكتور عبدالحميد ابراهيم 'الوثائق السرية'. وفيها ما لا يحصى من المواضيع التي يبدي فيها طه حسين رأيا، او يقف موقفا، مما قد يغير في قليل او كثير، صورته التي يعرفها عنه جمهور المثقفين.
وفي هذه الاوراق، او الوثائق، الكثير من الرسائل التي تبادلها طه مع الادباء المصريين والعرب والاجانب، ولا شك ان الكاتب بمجمل ما تناوله من رسائل وقضايا ومواقف يؤلف حدثا ثقافيا مهما من شأنه ان يعيد النظر، قبل كل شيء، بسيرة 'العميد'، وبثوابته وبمتغيراته.
عالم الرسائل بين طه حسين والآخرين، وعليها تنصب اكثر صفحات الكتاب، يمثل الوجه الخفي والحقيقي للحركة الادبية الحديثة.
قطب الرحى
ويلعب طه حسين قطب الرحى في هذه الرسائل. وقد اتته رسائل متنوعة من مختلف الفئات والطبقات، ومن عامة الناس وخاصتهم، ومن رجال الادب والفن والاقتصاد والادارة وصانعي القرار السياسي.
ومن هنا نجد رسائل من المكوجي والموظف الصغير والطالب الفقير، ومن ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومي زيادة، وطلعت حرب ومصطفى النحاس، والرافعي، ومكرم عبيد، وفؤاد سراج الدين، ومن كبار المشايخ ورجال الدين المسيحي، وحاخام اليهود، والمندوب السامي البريطاني، وكبار الامناء ومختلف الوزراء، ومن العالم العربي في السعودية والمغرب وتونس والسودان وسوريا ولبنان والعراق.
وهذه الرسائل في عمومها تفسر الكثير من الظواهر التي ننظر اليها من السطح دون ان نعرف جذورها ومراميها ودون ان نضعها في لحظتها التاريخية المعقدة.
وربما كان الاهم من ذلك انها تضعنا في مواجهة صفة رئيسية تمثل تركيبة نفسية عميقة، تشكل الكثير من تصرفاتنا السياسية والفكرية، وهي صفة انقسام الشخصية، فتبدو على السطح بوجه، وتبدو في الخفاء بوجه آخر. فإن كثيرا من الشخصيات التي هاجمت طه حسين، واتهمته بالخروج على العادات والتقاليد، كانت ترسل إليه في الخفاء رسائل المديح وقصائد الثناء، وتخلع عليه الالقاب العلمية، وتصفه بالريادة العلمية والاصلاحية. وهذه الرسائل سواء كانت من او الى طه حسين، ليست مجرد رسائل لتبادل المعلومات، والقاء التحيات، بل هي وثائق ذات دلالة تاريخية وأدبية.
فهي، تاريخيا، تلقي الضوء على كثير من الاحداث السياسية التي ازدحمت بها تلك الفترة، فبعضها كان موجها الى طه حسين من صانعي القرار السياسي، يعرضون ما يشغلهم امام طه حسين، وينتظرون منه النصح والتوجيه.
ملكته في التحليل
ولم يكن طه حسين من نوعية العلماء الذين ينعزلون عن الواقع حولهم. فقد كان ينغمس في التيارات السياسية والفكرية حوله دون ان يفقد ملكة التحليل والفهم ورد الامور الى جذورها الاصلية. ان رسائله الى السياسيين تكشف عن اهتمام بالمستجدات السياسية وتسمح لهبوب الرياح وتوجيه السفن بما يشتهيه الملاح.
في احدى رسائله في الكتاب، يطلب من الشيخ علي عبدالرازق ان ينبذ السياسة ويفرغ للعلم لان لديه من صفات الزعامة العلمية ما هو كفيل بأن يضعه في مراتب الرواد. ولكن طه كثير ما ينصح اصدقاءه باشياء يفعل هو غيرها على نحو مخالف. في رسائله يغري اصحابه باللهو والاستمتاع بالحياة، في الوقت الذي ينغمس فيه مع المتنبي او مع سواه من ادباء التراث. ونراه مرة ثانية يهاجم السياسة وينصح بالبعد عنها، في الوقت الذي ينغمس في تيارها حتى اذنيه.
أدبيا، تمثل هذه الرسائل سواء كانت من طه حسين أو إليه نماذج راقية المستوى تتحقق فيها العناية بالأسلوب والإيقاع النمطي والمقابلة بين المفردات والجمل وغير ذلك من محسنات نراها شائعة في أسلوب طه حسين.
لم يكن طه حسين يكتب مجرد رسالة تتحقق فيها صفة الاتصال وحسب، ولكنه كان يعتني برسائله مثلما يعتني بمقالاته. وكان الذين يكتبون إليه يحاولون أيضا ان يصلوا إلى هذا المستوى الفكري والأدبي، فلا يكتبون مجرد كلمات تنقل أفكارا مجردة بل كانوا يعتنون بألفاظهم وتعبيراتهم.
ورسائل طه حسين ذات قيمة تاريخية وأدبية، ولا تقل بحال عن مؤلفاته ولا عن معاركه الفكرية والسياسية. فهي من ناحية ذات كم كبير وتتنوع، كان طه حسين محور عصره يكتب إليه الكبار والصغار،وطالبو الحاجة والباحثون عن الشهرة. وهي من الناحية الكيفية تفسر الكثير من الظواهر التاريخية والأدبية، وتلعب من هذه الزاوية دورا يفوق ما تلعبه مؤلفاته لأنها ذات طابع سري وشخصي تلقي الضوء على ظروف هذه الشخصية التي كانت تميل إلى إخفاء ذاتها، وتضليل القارئ في سراديبها. وكان يتلاعب بالحقائق التاريخية والفعلية بهدف إبراز قدراته وتحويل القارئ إلى شيء منبهر.
وتبدو شخصية عميد الأدب العربي عملاقة من خلال هذه الرسائل. فالكثير يخلعون عليه الألقاب الجليلة، ويسيرون على نهج أفكاره، ويشبعونه في كثير من لوازمه الأسلوبية.
رفعته ا لموجة
ولم يكن السبب في ذلك قدرات 'العميد' وحدها. فإن الكثير من معاصريه كانوا يفوقونه في التحصيل العلمي والتثقيف الذاتي. ولكن السبب يعود إلى أن طه كان يتحدث بروح تلك الفترة، وكان لسانها المعبر عنها، وهي فترة غلبة المد الأوروبي، وانتصار النموذج الغربي، والنفوذ الاستعماري. فطه حسين إذا لا يتحدث بنفسه ولكن يتحدث بغيره. وكان يقف وراءه كل ما في هذه الفترة التاريخية من أصوات عالية تدعو إلى الحضارة الأوروبية. أو لنقل بعبارة أخرى إن طه ركب الموجة فرفعته تلك الموجة عاليا. في صورة ما، يبدو طه منتشيا بحياته العصرية التي يرضى عنها المحيطون به، بينما نجده في صورة أخرى منكسرا لأنه يمثل ذلك النموذج الذي تحاصره الحياة الأوروبية وتفرض عليه الانكماش.
يتحكم طه حسين في رسائله على مشايخ الأزهر، أو على المشايخ بوجه عام، وبخاصة في معرض المقارنة بين الحياة الأوروبية المعاصرة والحياة المصرية المتخلفة. تنتهي هذه المقارنة بتأكيد النموذج الغربي والحفاوة بمظاهره والسخرية من النموذج المصري الذي يقوم على دعائم من التراث العربي الإسلامي.
وقد تكرر هذا الهجوم عند طه حسين بصورة لافتة، ولم تنج منه حتى أعماله الروائية وذكرياته في 'الأيام'، ولم يكن يقصد وجه الحقيقة، أو يقف عند حد المقتضيات الفنية في الأعمال الروائية بل كان يستطرد ويوغل ويهاجم ويتهكم ويجرح، ولا يقف عند حد تصور الشخصية كمسمى إنساني بل كان يهاجمها كرمز للتراث وللثقافة المتخلفة.
هذه المقارنة بين مظاهر الحياة العصرية في أوروبا ومظاهر الحياة المتخلفة في مصر، لم يكن طه حسين يقصد بها حث المصريين على اللحاق بركب الحضارة المتقدمة، بل كان يهدف إلى التجريح والإيذاء والتهوين من التراث والتهكم من الرموز والثوابت.
ندور في فلكه
ولم يكن الأمر كذلك في بداية النهضة عند الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان يقارن بين باريس ومصر بطريقة هادئة، لا تعصف بكل شيء، وتغلب عليه الروح الحانية التي ترى شيئا جميلا في الغرب، فتتمنى أن تراه في الشرق وخصوصا ان تراثنا قد سبق الغرب في حضارته وقدم للإنسانية تلك النماذج الراقية.
ولكن هذه الروح الحانية قد توقفت عند طه حسين الذي تحول إلى عاصفة تدمر كل شيء وتسير في اتجاه هبوب الرياح، وتجد من التشجيع والترحيب ما حولها إلى نموذج تحذوه أجيال الكتاب بعد ذلك.. وقد آن الأوان لتصحيح هذه النماذج وتصويرها بطريقة موضوعية.
وتظهر 'الوثائق السرية' لطه حسين ان الكثير من الرسائل الموجهة من كبار المفكرين والادباء اليه، تبدو وكأنها تدور في فلكه.
لم تنج من ذلك رسائل الشيخين مصطفى عبدالرازق وعلي عبدالرازق. الا ان هناك نفرا قليلا من امثال العقاد وتوفيق الحكيم والدكتور محمد كامل حسين يتمردون على معطف طه حسين. فهم يجادلونه، ويعدلون من آرائه، واحيانا يعيبون عليه بعض الانحراف. وفي نبرة تحمل قدرا غير قليل من التوصية يشرح له العقاد أن الشجاعة لا تكون في الاندفاع مع الهوى واثارة الناس. ويحذره الدكتور محمد كامل حسين في نبرة لطيفة بألا يلون في صوته، ويدس في نغماته، فيفسد العلاقة بينه وبين مدام طه.. وهو يبلغها - بشرط ان يكون مخلصا - تحياته!
ويمكن وصف العلاقة بين طه والعقاد بأنها كانت من نوع صراع العمالقة. كان لكل منهما مدرسته، وكان بين المدرستين تنافس شريف لم ينحرف الى التجريح او التشهير او الحقد او الايذاء. وكان التنافس بينهما يقوم على مستوى راق تحكمه الافكار، وتتوالى فيه الاشارات الذكية، يلتقطها احدهما من الاخر ويفهم مراميها التي تستغلق على القارئ العادي، وكأنهما يتحدثان بلغة فوق لغة البشر.
وكان كل منهما يهدي مؤلفاته الى الاخر، ويتمنى في الوقت نفسه ان تتواصل مؤلفات الاخر، فكلاهما مشغول بهدف واحد، ولا يجدان من الوقت ما ينفقانه في الحسد والكراهية.
وربما كانت الرسالة الاولى من اخطر الرسائل في تاريخ حركة التنوير. فهي تكشف عن شخصية كل من العملاقين: تكشف عن شخصية للعقاد حادة الذكاء واسعة النظر، وتحلل شخصية طه حسين تحليلا ذكيا ترتد به الى منازعها الخفية.
كتب العقاد كتابا عن المعري، وعلق طه حسين على هذا الكتاب بكتاب لم يعجب العقاد. وانفعل العقاد بهذا التعليق، وجاء انفعاله على هيئة تلك الرسالة التي لخصت طه حسين تلخيصا دقيقا لم تستطعه مئات المؤلفات.
على آن العقاد، شأن الكبار، لم يهاجم طه حسين باسلوب صبياني يقوم على الشتم والتجريح، بل عرى دوافعه النفسية، واعطاها مسماها الحقيقي. فهو لا يصدر عن الشجاعة التي تقاوم هوى النفس، ولكن شجاعته من نوع الاثارة التي تدفع اليها النفس وتلتذ بها.
ولعل هذا هو مفتاح شخصية طه حسين، ان استخدمنا هذ المصطلح العقادي. فطه حسين، كما تصوره 'الايام'، هو كذلك سواء في القرية او في الازهر الشريف او في الجامعة المصرية او في باريس، يتحرك بهوى من نفسه التي تميل الى المناوشة، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة او على حساب مشاعر الاقارب والاصدقاء المحيطين به.
طه حسين وأتاتورك
عظيم من طه حسين ان يتحدى المجتمع، لكن الاعظم الا يكون وراء ذلك هوى شخصي.
هنا الفرق بين رجل يبغي النجاح ولفت الانظار، وبين رجل يبغي الحقيقة، ويسير في طريق الانبياء والشهداء.
ان طه حسين يستفز العامة، ويثير القضايا التي تصادم العقيدة، وهو يشكك في المسلمات، وهو يتخذ اسلوبا ساخرا يدفع الآخر الى ان يخاصمه ويثير الضجة حوله.
ان سر عظمة طه حسين في 'وثائقه السرية' هو التراث وسر كبوته هو حركة التغريب، فهنو اوضح رمز لحركة التغريب منذ الطهطاوي.
وحتى بداية الالفية الثالثة فقد تحدث عن باريس اكثر مما تحدث عن القاهرة، وتحدث عن زوجه اكثر مما تحدث عن امه. واشاد بالسوربون اكثر مما اشاد بالازهر الشريف. ثم نظر كل ذلك في كتابه 'مستقبل الثقافة في مصر'، وهو كتاب تربوي يضع اسس التعليم والثقافة في المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات الاخرى، وذلك بعد الاستقلال الذي كفلته معاهدة ،1936 وهي اسس تقوم في جوهرها على اقتباس الحضارة الغربية بخيرها وشرها وحلوها ومرها، على حد تعبيره!
وكان صوت طه حسين جهيرا في هذا الميدان، لا يخفيه ولا يخفف منه، بل يعلنه في مؤلفاته وابداعاته وفي مواقفه، ومع تلاميذه وفي مجالسه الخاصة، وفي رسائله الشخصية.
ويبدو ان النفوس كانت مهيأة لذلك، فان الرسائل الشخصية التي بعث بها الى طه حسين كبار الادباء والمفكرين، لم تنج رسالة من هذا التيار العنيف، حتى بعض رجال الدين وبعض الشخصيات التي كانت تبدو امام الناس في صورة من يقاوم هذا المد، تتعرى امام طه حسين وتبدو عصرية تناصر هذا المد الغربي الذي كان في حينه يعني الحضارة والتقدم والمدنية.
ويقول الكتاب ان الدور الذي لعبه طه حسين في مصر يشبه الى حد كبير الدور الذي لعبه كمال اتاتورك في تركيا، مع اختلاف نوعية هذا الدور باختلاف طبيعة كل من الشعبين المصري والتركي.
شكوى في الرسائل
في وثائقه السرية يبدو عميد الأدب العربي شاكيا حينا، ومشكوا اليه حينا آخر، هو يشكو مما حل به، او آل اليه. كما يشكو إليه الآخرون امورهم ومظالمهم.
يأتيه أديب من العراق يسأله: لم نعد يا سيدي نقرأ لكم شيئا في 'الجمهورية' منذ فترة، فيقول له طه حسين في هدوء: منذ فترة استغنوا عن خدماتي يا سيدي. علمت ذلك من خطاب وصلني بالبريد، جاء فيه ان الجريدة تستغني عن خدمات عدد من المحررين، منهم طه حسين..
ويأتيه يوما صهره محمد حسن الزيات فيحدثه عن الانفصال بين مصر وسوريا، ويجيبه طه حسين: لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا في تلهفنا ان اساس النهضة في كل بلد، واساس التضامن والتقارب هو العلم..
وفي 'الوثائق السرية' رسالة موجهة الى طه حسين من احسان عبدالقدوس وقد كتبها سنة 1966، زمن عبدالناصر، وهي قطعة أدبية حية تعكس احساس المثقفين المصريين في تلك الفترة التي سبقت نكسة 1967، وتدل على ان النكسة لم تكن بسبب اخطاء عسكرية بقدر ما كانت تخفي ورءاها هزيمة حضارية.
وطه حسين، وان رحب بثورة يوليو في البداية، لكن موقفه اختلف بعد ذلك، وبخاصة في أواخر ايامه. فقد بدا متهدما متألما، وقد اختفت ابتسامته التي كانت تملأ وجهه حتى في احلك اوقاته وهو يواجه الجماهير من اجل معتقداته..
ولم تكن الحال كذلك مع طه حسين وحده، بل امتدت لتشمل معظم المثقفين: عباس محمود العقاد وتقول بعض الصحف عنه انه رجعي وضد الاشتراكية، ويتحاشاه كثير من الناس، وينعزل في بيته.
ومن قبله يتعرض عبدالرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة، سنة 1954 لمجموعة من البلطجية المأجورين يقتحمون عليه مكتبه ويوسعونه ضربا، وهم يهتفون بسقوط الديموقراطية والمثقفين.
وقد حاول طه حسين بذكائه الاجتماعي ان يحتوي السلطة، فأخذ في بعض الاحيان يكتب مقالات في المديح، وفي بعض الاحيان يخاطب عبدالناصر بكلمة 'سيدي'. وفي كل الاحوال يحاول ان يضمن كلامه اشارات موحية من نوع ما كان يستخدمه في 'المعذبون في الارض'.
ولكن هذا الاسلوب المناور الذي يجيده طه حسين لم يعد كافيا، ولم يعد احد يصغي لصوت المثقفين، او يهتم بالايحاء والرمز، وتحولت لغتهم الى همهمة تحتوي على حروف دون معنى.
وتكشف 'الوثائق السرية' ان طه حسين الواقع هو غير طه حسين 'الأيام'، كتابه المشهور الذي روى فيه ما يشبه سيرته الذاتية.
تقدم 'الأيام' طه حسين شيئا مختلفا عما كانه في واقع أمره. فهو صانع نفسه في كل شيء، وهو محور الاحداث، ولا اعتراف بفضل لأب أو لأخ أو أستاذ. بل يذهب الى ابعد من ذلك، فيتصيد الاخطاء لمن هم حوله، ويحاول ان يرصدها ويتهكم بها.
و'الأيام' تقدمه لنا منبت الصلة عن احداث عصره السياسية والاجتماعية، وهي لا تمس هذه الاحداث الا اذا اتصلت، من قريب او بعيد، بمغامرات الصبي، وكأن هذا الصبي هو شيء فوق الاحداث، ان لم يكن هو صانع هذه الأحداث.
وكل هذا له ما يبرره في نفسية طه حسين، وليس من الواقع الفعلي. فهو في 'الأيام' يصور بطلا ملحميا يستقطب الاحداث، ويخترع المغامرات، وله من القدرات ما يصل الى حد المعجزات، التي تحوله من انسان عادي الى بطل خارق.
رسائل نسائية
وقد احتفظ طه حسين في اوراقه برسائل ثلاث شخصيات نسائية هي: مي زيادة وامينة السعيد وسهير القلماوي. وسهير القلماوي هي الوحيدة التي احتفظ طه حسين برسالة منه اليها، لعله كتبها ثم رأى ان يحتفظ بها لنفسه، فهو نوع من الرجال الذين يخفون مشاعرهم حتى عن اقرب الناس اليهم.
وطه حسين عادة 'متحفظ في عواطفه، لا يتجاوز فيها المقدار الرسمي. ولكنه مع 'سهير' يخرج عن عادته، فهو يبدأها بالمراسلة، وهو يحثها على استمرار المراسلة، وهو يودعها بنفسه قبل سفرها الى البعثة.
ورسالة طه حسين الى سهير قطعة ادبية، تحمل خصائص طه حسين الاسلوبية في التكرار، وحسن التقسيم، والايقاع الصوتي.
وهي ربما للمرة الاولى، تنقل طه حسين من موقف المتأمل للمرأة، الذي يرصدها كذكرى، او يرقبها كرمز، الى موقف المشارك الذي يصبح طرفا في المعادلة.
فالرسالة ليست حديثا عن المرأة او معها، بقدر ما هي توصيف لمشاعر طه حسين الخاصة.
الكتاب: الوثائق السرية - طه حسين
تحقيق وتقديم: د. عبدالحميد ابراهيم
الناشر: دار الشروق - القاهرة
www.bonjpursham.net
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية