أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الروليت الروسية.. الكرسي الألماني.. وبساط الريح السوري


يروي معظم معتقلي الحرية بعد خروجهم من الاعتقال قصصهم بالتفصيل على الملأ ,ما استوقفني في بعض هذه القصص هي أن أكثر ما كان يزعج المحققين ويثير استنكارهم هو أن هؤلاء الشباب هم  "أولاد ناس " أي من عوائل غنية ( حتى أن أحدهم كان يحمل هاتف نقال يساوي ثمنه ثلاثة أضعاف راتب الضابط المحقق ) وهذا ما يقود إلى استنتاجات عدة :
أولها أن ضباط أمن النظام ومخابراته لا يزالون يصدقون القائد الخالد ابن الخالد في كل ما يقول ( بحسب كلام الأخير فالناس يتظاهرون لقاء 2000 ليرة !) و هنا تكمن الغرابة , فما حاجة الغني إلى 2000 ليرة وكيف يعرض هذا الشاب ابن العائلة الميسورة نفسه إلى السجن (هذا إذا لم نذكر الكم الهائل من الإهانات والذل) لقاء مبلغ يدفعه عادةً ثمن لوجبة غداء مع رفاقه. 
وثانيها أن هؤلاء وبعد مرور أكثر من سنة ونصف على الثورة لم يقتنعوا بعد أن الشعب إنما يثور لأجل الحرية , بدليل أنهم لو اقتنعوا بذلك لزالت دهشتهم فالحرية كما يعلم القاصي والداني مطلب لا علاقة له بالمستوى المادي.
وثالثها محاولة فهم " عقلية  " وطريقة عمل الأجهزة الأمنية, فمع تساوي كرهها وازدرائها للجميع على اختلاف مشاربهم إلا أن طريقة التعامل تختلف حسب الفئة التي يصنف المعارض ضمنها في نموذج التحليل  " السيكولوجي  " (أتخيل أنكم تضحكون,...معكم حق) الذي يخضع له .
شأنها شأن مثيلاتها في الدول المحترمة مثل إيران و كوبا و فنزويلا و كوريا الشمالية تدربت أجهزة الأمن السورية على وصفات جاهزة مستقاة من الإرث السوفيتي  " العريق  " في التعامل مع المعارضين حيث يتم بدايةً تصنيف هؤلاء إلى ثلاث فئات :
أبناء العائلات الميسورة والتجار : يعتبر هؤلاء  "بشراً " من حيث المبدأ ولكن غرر بهم , ولكونهم ممن يتمتعون برغد العيش يتم تذكير هؤلاء بالكلفة الباهظة لمعاداة النظام وما يترتب عليها من خسارة المركز الاجتماعي والحرمان من متع الحياة , يسمح لهم ببعض الرفاهية (التدخين ,السماح بزيارة الأهل ,السماح بشراء الطعام الفاخر,الدخول إلى الحمّام ,عدم التعرض للاغتصاب (بالنسبة للفتيات)) المدفوعة مسبقاً حسب التسعيرة المعمول بها في عموم سجون سوريا.
لضمان نجاح الوصفة يتم إخضاع  " المتهم...المغرر به " إلى جلسات طويلة ومرهقة يتخللها مزيج من الترغيب و الترهيب يتناوب عليها أكثر من محقق (أسلوب الشرطي الجيد والشرطي السيء) , يضاف إلى هذا التجويع المتعمد و الحرمان من النوم لإضعاف القوى العقلية والجسدية مما يؤدي إلى إتمام عملية  " الإصلاح  " 
غالباً ما يطلق سراح منتسبي هذه الفئة بعد  "شدة أذن  " صغيرة (وكثيراً ما يعطيه المحقق رقمه الخاص ليتواصلا إذا ما احتاج الشاب لأي  " خدمة  " أو احتاج المحقق لأي  " عملة  " !).
المثقفون الجامعيون أبناء الطبقات المتوسطة : يعتبر هؤلاء  " ما تحت البشر  " ويتم التعامل معهم على مرحلتين : 
أولى يحرم فيها  " المتهم... الشاطر بالعلاك المصدي  " من أي رفاهية ويكون جوهر هذه المرحلة توجيه أكبر قدر ممكن من الإهانات الشخصية لينفس بذلك المحقق عن عقدة النقص التي يعانيها العسكر من الطبقة المثقفة (هذا الشيء معروف للجميع لدرجة أن لقب  " أستاذ  " في الجيش يعتبر من أكبر الإهانات التي قد يتعرض لها أي عسكري ) , في نهاية هذه المرحلة يسود الاعتقاد لدى أبناء هذه الفئة بأن العلم والثقافة لا تساوي شيئاً في هذا البلد وأن أول شيء يجب فعله حال الخروج من السجن هو الهجرة. 
وثانية يتم فيها سبر ميول  " المتخرجين  " من المرحلة الأولى, فمع اليساريين يتحول المحقق إلى داعية تحرر ويورد في هذا السياق براهين شتى تدل على  "عرعورية " الثورة ويستفيض في شرح مخاطر وقوع البلد بأيدي  "الإخونجية أصحاب الدقون " الذين يريدون تحويل البلد إلى أفغانستان جديدة , ومع اليمينيين ينقلب المحقق شيخاً جليلاً ليذكر بضرورة طاعة الله والرسول وأولي الأمر ووجوب عدم إلقاء النفس إلى التهلكة (يتم استخدام أحاديث نبوية وآيات قرآنية داعمة لهذه الفكرة ) ,للمساعدة في الإقناع يتم تقديم بعض أوجه الرفاهية المجانية مثل السماح بدخول الحمّام.
مدفوعاً بمنطق الحد من الخسائر والاحتفاظ بما بقي من كرامة ,ولأن وجوده خارج الأسوار أكثر فائدة للثورة وللثوار من وجوده داخلها ,عادةً ما يتنازل المثقف (على مضض) ويوقع تعهداً بعدم العودة للتظاهر فيصار إلى إطلاق سراحه بعد  " هزة بدن  " كبيرة مع مطالبته بمراجعة فروع الأمن بشكل دوري ليتم تذكيره بأن النظام يراقبه عن كثب.
تتكون الفئة الأخيرة من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم وخاصة أهل الأرياف منهم , تعامل المنظومة الأمنية هؤلاء على أساس أنهم  " ما تحت تحت البشر  " وتتبع معهم أشد درجات العنف والسادية ,باعتبار أنهم جاحدون لنعم القائد الخالد وفضله عليهم , فبعد أن بنى لهم المدارس وأوصل الكهرباء والهاتف إلى بيوتهم وبنى لهم الحدائق والمشافي هاهم يكيلون له المسبات والشتائم ويطالبون برحيله.
يعتبر الاستخدام المفرط للعنف والقسوة الطريقة الوحيدة للتعامل مع هذه الفئة ويمنع إظهار أي نوع من الشفقة ويبرر ذلك بأنه لطالما كان للنظام خصوم من الفئتين السابقتين ولم يشكل ذلك أبداً أي تهديد حقيقي ( لطالما كان المثقفون يعيشون في عالمهم الخاص بعيداً عن الواقع أما الأغنياء فلطالما هربوا بأموالهم للخارج ), أما هذه الشريحة فهي المشكلة لغالبية المجتمع السوري وخاصة في الأرياف التي لطالما أسس عليها نظام البعث منطق تواجده واستمد منها الخزان البشري المطيع للأوامر والمشكل للنسيج الأساسي للجيش السوري وعليه لا ينبغي المخاطرة باحتمال تفشي ظاهرة التطاول على النظام ضمن أبناء هذه الفئة ويجب وأد هذا الاحتمال بغض النظر عن التكلفة البشرية. 
تظهر أشرطة التعذيب المسربة من أقبية أجهزة الأمن مناظر تقشعر لها الأبدان ويندى لها جبين البشرية ما يطرح سؤالاً ملحاً عن معايير اختيار النظام لهؤلاء الجلادين وما هي الانحرافات النفسية والسلوكية التي يجب أن يظهرها المرشح حتى يتم تكليفه بهذا العمل , وكيف يستطيع مثل هؤلاء النوم ليلاً ( أثار تعجبي وصف أحد المعتقلين للكلام الرقيق جداً للجلاد مع صغيرته  "حبيبة البابا " على الهاتف عندما اتصلت به وهو في خضم جلسة تعذيب !!).
من المتعارف عليه أن الدراسة الأمنية التي يخضع لها أي مرشح يرغب في العمل في أي من أجهزة الأمن تقوم على عدة عناصر أهمها البعد عن الدين كشرط أولي , يضاف إليه الوضع المادي الضعيف ,عدم وجود معارضين أو حياديين في العائلة ,ضعف المستوى التعليمي والثقافي , وجود أقارب في أجهزة الأمن لتزكية طلب الانتساب ,....الخ وعادةً ما يتم تعيين الناجح في منطقة بعيدة عن مكان تولده كي لا يؤدي عامل المناطقية إلى أي شفاعة أو رحمة فأبناء ادلب يعينون في دمشق وأبناء دير الزور يعينون في ادلب وهكذا دواليك هذا طبعاً في الشق المهني.
أما في الشق النفسي فقد اقترح بعض المختصين فكرة اتّباع هؤلاء لـ  " ديانة  " خاصة بهم (*) , وبما أنني لست مختصاً بعلم النفس فسأترك  " للخباز خبزه  " وأكتفي بالتذكير بمقولة فيلسوف الهند :  " عندما يصير الإنسان حيواناً فإنه يغدو حينئذ أسوأ من الحيوان  ".
المعضلة التي طرحتها الثورة ولم يجد لها جهابذة أجهزة الأمن تفسيراً هو عودة هؤلاء الشباب للتظاهر بعد إطلاق سراحهم , الشيء الذي له احتمالين لا ثالث لهما , فإما أن تكون الوصفات التي درسوها في روسيا وأثبتت نجاحها طوال عقود قد انتهت صلاحيتها ( هذا ما دفع النظام في أشهر الثورة الأولى لإرسال كبار ضباط أمنه إلى روسيا لـ  " صقل مهاراتهم  " ) , أو أن حاجز الخوف قد انكسر إلى غير رجعة وأن براعم الحرية والكرامة قد وجدت طريقها إلى نفوس هؤلاء الشباب.

لطالما أثارت أدوات التعذيب الموروثة من العهدين السوفييتي والنازي كالروليت الروسية والكرسي الألماني مع مثيلاتها السورية كبساط الريح والدولاب ( براءة اختراع سورية بحتة ) الرعب في قلوب الآلاف, لنأمل أن تحول ثورتنا هذه الأدوات إلى مجرد معروضات في متاحف سوريا المستقبل لتستحيل قصصاً نحكيها لأبنائنا وأحفادنا عن الثمن الغالي الذي دفعناه لكلمة حرية .

(*) :مقال د. أحمد الشامي الخبير في علم النفس الإجرامي بعنوان : "يا شبيحة العالم اتحدوا".

http://www.facebook.com/aftera.longsilence

زياد المحمود - كاتب سوري
(156)    هل أعجبتك المقالة (129)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي