أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بلح الليل ... أحمد ختاوي

بلح الليل

فصل من رواية

أحمد ختاوي/الجزائر

... والغرفة المظلمة تجري لمستقر لها ؟؟؟..
كما الغبار والدوار تتسكع أوراقه بين دفاتره المبعثرة بمحاذاة نافذة غرفته الصغيرة المطلة على شارع الأهوال ،فٌتات مذكرة تخرجه وبقايا أيامه الشاحبة تقبع صاغرة على طاولة اعتراها التحلل كمادة كيميائية عفنة ، تشكو ربها ، تتوحد لباريها من هرم اكتسحها ، يحدق فيها في شفقة ومؤازرة قبل أن يمسح شعره الأشعث بمنديل فقد لونه من كثرة الاستعمال والرطوبة ، ثم يمرر يده الهزيلة على وجهه الهزيل وعلى أجزاء من طاولته ، يتلمس بعض الأوراق ، تتفتت بين أصابعه كحطام أوراق هشة أو كعصف مأكول ، يأكل أظافره أكلا لمّا َ، يسحب نفسا من سيجارته النصف ميتة نصف ،عارية كأنها تستحم في وحل رماد قصف غاشم على أهالي عزّل ، والجاثمة على مطفأة مهترئة مصفرة كأوراق الخريف ، لم ينفضها مند أمد، تتزاحم بها بقايا سجائر وبقايا دقائق وأزمنة تبعث زئيرا لا ينتهي كأنه دولب لا يتوقف بأحد المصانع الميكانيكية ،لا يصعق المسؤولين بقدر ما يصم أذان العمال والطبقة الكادحة ،ونصف ديوان شعري لم يفهرسه بعد ،كأنها طوابير ورى تنتظر خبزا أمام مخبزة لم يعجن بها الخبر بعد .الشاب " أمين "حامل دكتوراه في الاقتصاد والتخطيط لم يلتحق بعد بعمله بالمخبزة ، والساعة بمعصمه تنذر باقتراب وقت أذان الصبح ،موعد التحاقه بها ، جماعات بشارع الأهوال قد تتربص به ، في محاولة لاقتناصه ،هكذا يتخيل ، لأنه كتب موضوعا بإحدى الصحف اليومية ينتقد فيه مرحلة لم ترق أفكاره واديولوجيته اليسارية ، فقط عمي مسعود " العجان " بالمخبزة ، والذي يفترش ألأكياس الفارغة ويبيت بإحدى أقبيتها متواجد بها منذ السابعة مساء من ليلة البارحة ، وقد اقتنى كعادته "عشاءه" ( خبز ملفوف في قطعة جريدة تطل منها أخبار جارحة ومحرجة )بها أكلة متواضعة ( بطاطا ، بيض مسلوق ، طماطم ، بصل وبقايا فلفل شاحب ).دون أن ينسى زاده من السجائر وقنينة خمر .. ومع هذا تلجه السعادة من كل صوب وحدب وتغمره ، يحمد الله ليل نهار على هذه النعمة التي لا تضاهيها نعم أخرى ،وقد تملص عدة مرات من كمائنهم .حيث كان يعمل هو الآخر بإحدى
المخابز التي كانت تموّل إحدى الثكنات العسكرية بالخبز .
عنوسة الليلة المظلمة تقاضي بالآهات الغرفة المظلمة بالهستيريا وبقايا ضباب فجر الغد الذي يحجبه عنه ليتسلل إلى المخبزة قبل أن يرفع أذان الصبح من الزقاق الضيق المحاذي ل" حانوت " عمي الجيلالي الذي يدعو "لأمين " كل صباح بالسلامة ، قبل أن يمنحنه تأشيرة المرور إليها بعد أن يطمئنه على سلامة المسلك.
يلتحق " أمين " مع طلائع الفجر بعمله ، مضرجا بالأرق .
يلتحف خوفه المسجى على تابوت خطواته ، يهلوس مثلما تهلوس الأصداء بغرفته المظلمة العانسة
:" عاشر الغرفة المظلمة بمعروف أو طلّقها بمعروف " همسٌ يتناهى إليه من غور مشاعره ، ومن خطواته المتثاقلة ، :" بل عاشر هستيريا الأيام بمكروه أو طلقها بإحسان ".يرد وهو يغمغم .
وصبحٌ تواقُُ إلى ....

والصبح يجري لمستقر له ؟؟؟
دحرجت سويعات الصباح غسق الليل ، كمن يدحرج هموما عالقة لا تأبى الانزياح ، تداولت على جبين " أمين " أكواما من " السراب " تحط على جبينه كما تطرح العصافير فرحها وأملها على " الكوابل الكهربائية " مرتفعة الضغط ، كوابله تلتحم بمكوك بمخيخه الذي يوزع " القرارات " على باقي أعضائه ، يقف مذهولا أمام رافد أفكاره ، يوزع " مخيالا " لصورة شعرية تأتيه فجأة فيطردها ، ثم سرعان ما يجذب وريقة من جيبه ، فيسجلها حتى لا تندثر مثل بقايا تبن في بيدر تذروها رياح خفيفة ، تغزو وجنيتيه قشعريرة ، تعكسها أشعة الشفق بين مطلع جفنيه وبقايا أديم وجهه التواق إلى يوم لا مكروه فيه .
ينزلق من هذا " الأرق النهاري " فيمتطي هذيانا يزوره عابرا ، يمتطي صهوته ، فيما تتسرب إليه في زيارة خافتة " خاطفة ، موجعة صورة شعرية أخرى تتزاحم بمخيلته هذه المرة، فتنتشله
lمن هذا الأرق ، يقرفص بأحد أكياس الدقيق بالقبو الخلفي للمخبزة ، حيث يرقد جسده النحيف ، يلتحف غبار الكيس ، العجين المعجون يقبع على "عربات خبز" صغيرة ليزف إلى الفرن قربانا ليبعث "خبز صاغرا" إلى "شعب صاغر" . كان يتراءى له كيهود ألمانيا وهم يزفون إلى السعير ، أو كوابل قذائف يسقط على رؤوس ألأطفال وهم يلعبون بأحد المخيمات المحاصرة ،كما كان يبدو له تماما كنظرية داروين في التطور . ألجمه " ولعه " وولهه " ب"الخبز الحافي " لمحمد شكري .
على مجداف نبرته المبحوحة هدير مشاعر يستحضر تيارا فكريا تجره خيولا تخرج لتوها من أحد القصور الارستقراطية بأوربا العهود البرجوازية .. تجر عالما طفوليا سيّج عربات تجرها خيولا لاهثة بمدخل أحد الأسواق الشعبية ، تنخره دقائقها وتفاصيلها ، يقترض حقبة طفولية زاهية من حقبة جارفة ، تعسة ، يقايضها بالعرق والسراب المرتسم على جبينه لوحة سرمدية في صحراء تسبّح لباريها ، وهي تستجير من يوم قائظ يطوقها ، وقد يخنقها ،،، يمحو أثار نكسته الزمكانية ، والصبح يجري دوما لمستقره ,
يستأجر " أمين " خياله ليوم قد يحصل فيه مكروه , هو ذا تخمينه وهو ينتقل كفأر مسعور بين أجسام أكياس دقيق خرساء ، لا حول ولا قوة لها ، هامدة ، يقضمها الفأر والإنس والجان ولا تقاوم ، ،تبدو له وكأنها نائمة على بركان خامد ، أكياس قد تكون مصدر طواريء أو " شؤما " قادما ، أو منعطفا في حقبة زمنية قاتمة ، تمنى لو ظفر بعمل غير هذا ، إطار بمؤسسة محترمة مثلا ،ينظر إلى كيس من هذه الأكياس النائمة قرب "مرقده " تارة كأنه طائرة أو قذائف تتأهب لقصف " كرامة" شعب " بأكمله ، أو كجسر يربط جوع التعساء، البؤساء بثراء وبذخ االاغنياء وبحوافر أحصة القصور الملكية ببريطانيا والأحصنة العربية بالبوادي ، هكذا تحدثه انكساراته ، يعبرها " بمخياله" بقايا صورة شعرية تقفز إلى ذهنه ومخيلته مباشرة ، يجذب وريقة هشة من غمد " كناش " تحت وسادته التي يعلوها الصدأ
يدبّج ،وقد توهجت نار قريحته كجذوته انفعالية لحصان عربي تمرد على " مالكه:
أرسمك (مفاعيلن ) في الوزن العربي
أرميك في الماء العربي كما رمى الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور قصائده وتيهه ووزعها من المحيط إلى الخليج .
أنثرك ( فراشات ) لتصعقي قصائد محمود درويش بالود وبالعنف ، وتطيرين في السماء لتمحقي ساكنة مخيم ( جنين )وغيره أو " بقايا " شعب من حولي ...:
أو لتصفقي في مؤتمرات شعبية ، وتجمعات تصعق أرجاءها " التزكيات "والشعارات "
أو رؤوس قنابل توزع من أعلى السماء " وردا" على المارة ، " وبقية البشر "
أزمتي وأزمتك ، أننا أصدقاء ، تجمعنا " أوزان " الفراهيدي " وميزانك هذا " " البليد ".
شعوبهم تزن أوجاعنا ، ترميها بالفرن كما رمى هتلر يهودا بفرن يشبه هذا تماما ،
ونحن " نشوي " أوزاننا " بالتقسيط على " بقية الشعب " .
نزن الخوف والذهول ، وانكسارات أمة برمتها ،
نخرج من فوهة الانكسارات ، مثلما تخرج النملة من جحرها لتقتات ..
هو ذا الفاصل بيننا وبين أحصنتهم التي تصهل دون ذهول ،
وعكة " القدر " أنني أمقت هذه المهنة ، لكنني مجبر ..
ووعكتي أنني أمتطيك كمن يمتطي جيادا لا تستجيب " لنعرة القبائل "
لا " أخالك ألا بندا في " معاهدة تافنة " للأمير عبد القادر بالرغم من إيجابيتها ،
لن أعطي تماري للغير ، وثمن انكسارتي إلا للذين تمردوا على القصيدة العربية ..
إليها نازك الملائكة " أسدي كيسا من هذه الاكياس ، عربون وفاء وعرفان .
لأنها تمردت على أوزان الخليل مثلما أتمرد الآن على " "نمطية هذه الأكياس "
من كدسها هنا ؟ عامل بسيط مثلي ، يحترف " الانصياع .
من يهزم الآخر ، سوى الجياد وفرسان الوغى ...قد يكون " ولعي " بالخبز الحافي " لمحمد شكري ، أو تأرجحي بأن أغادر هذا المكان ، أٌصففُ كما هذه الأكياس " على كاهل هاجسي كحمولة قافلة ، وأرحل من هنا ،
ألست ٌعربيا أحترف الارتحال ؟؟؟.
أمقت هذه المخبزة لأنها تموّل سجناء الحق العام بالخبز ،
وباؤك المزمن أنك توزيعين الخبز على سجناء الحق العام ، ونظيراتك توزع الخبز من الدرجة الأولى على الأثرياء ، هو ذا الفرق بين مقتي وحبي لك ؟
أمقت القانون ، لأنه عادة لا ينصف الضعفاء .
يركن إلى زاوية ، يجثو أمام " كيس فارغ يركله بأخمص قدمه . يلعنه ، يلتحفه ، يسافر وإياه على ظهر خياله ، يجثو ثانية ، يقوم بحركات " يوقا " في عملية استرخائية ، كل هذا في محاولة لطرد هواجس تكبله ، يشد على الكيس الفارغ بإحكام ،كمن يكفر عن ذنبه ، يحاوره في نبرة خافتة " ما ذنبك ، أنت مجرد أداة مثلي ، قدرنا أننا نموّل سجناء الحق العام ".
يفرغ بضائع عشقه للعامة بدون استثناء ، في بحيرة تمقت الظلم ، تمقت التقيؤ ،، والجوع ، والاستغلال ، يدخل مرفأ الشمس من بحيرة تمقت الظلم.
يرشده معول أفكاره ، إلى صحراء بها نزلاء الحق العام ، بها أيضا بحيرة صفاء ، من مائها يعجن رغيف في " فرن ثورة "؟
يرحل إليها يحمل مطرا وقانونا منصفا ، وشمسا مفعمة بالخصب ، بالحب ،"وخبزا " يصنع الإنسان الحر ، لكنه يغتسل و" ويحمى " جبينه بحرّ الهجير ، كمن تحمى جباههم بالسعير ..
أين المفر ، يردف " النار الحارقة ، في كل مكان ،في الصحراء والتل ، لكن شمس الصحراء تجيء من تلال لا تصدّر القوانين الجائرة ،المجحفة مثل العواصم ومخابزها ،
يستوي على كيس دقيق ، بعدما انهي حركاته الاسترخائية ، يجذب كناشه، وقد ملأ مخياله " ترفا" وراحة ، يأخذ قلمه ، هذه المرة ، يكمل قصيدته ،يقول :
مرمية الحاني في صحار يسكنها السراب
يسكنها الخراب
وأفتش عن معزوفتي المدفونة في التراب
أدخل واحة السراب
حيث ينمو القحط
وتنمو السنون العجاف
كعباءة يوسف ممزقة من قفاه
ممزقة أوتار معزوفتي
ممزقة أوصال عودي
وبيت قصيدي الذي
يجوب صحراء السراب
يفتش عن الأرض الخراب
في ملاجيء العذاب
يفتش عن ألحان عذبة
في واحة السراب
وقافية مدفونة في التراب
يبحث عن " غيفارا" في واحة القصب
عن أبي ذر في عيون الأطفال الجياع
عن منبت الخصب
في واحة السراب
موزعة أشعاري كشمس النهار
في البيادر ، في الحقول
في الخبز الذي يحلم به الأطفال
في الدفء الذي يحلم به الأطفال
تبحث عن سندباد ضاع ...ضاع
بين أكياس الدقيق ...
في واحة يسكنها الحقط
وجرح غائر يطارده حلم مزروع في ظلمات النهار
في مخبزة تمول سجناء الحق العام .
وسنبلة افتقدت لونها
فامتزجت بلون الغبار ،
بلون الخراب
بلون العذاب
في واحة سكنها القحط .
منشورة كلماتي كالدفء الذي يوزع لحنا
في زمن ينمو فيه القحط
في زمن يلعق فيه بترول العرب ،
عبثا نبحث فيه عن الخصب
ما دام غيفارا يضيع في واحة القصب
يفتش عن ملاح يحصد القحط
والبيادر تختزن الرزق
وأبار البترول تلعك الإرث ..
تلعك الإرث .
يغير مكانه ، وقد تنفس الصعداء في هذه القصيدة التي أرقته ، أفرغ فيها تجلياته ، وتداعياته ، وهو شارد ، يمسح بقايا عرق ، يسمع صوتا خافتا من الخلف " أمين ، المسلك مأمون " تستطيع الآن الخروج .
عمي الجيلالي كان ينتصب أمامه كتمثال تذكاري ، أو كصخرة قد تسقط منها من لحظة لأخرى أكمة من مخاطر ،
- من أوصلك إلى هنا ، يقول
- - زميلك رضا ، هاك قهوة ،
- أرجاء المخبزة تعج بالغبار وقد غادرها كل العمال ما عدا الباعة ،
- يناوله عمي الجيلالي قطعة نقود تبدو " ورقية " وينصرف حتى لا يثير انتباه باعة الخبز بالطابق العلوي ، لأنه لم يتعود النزول إلى قبو المخبزة ،
- يحدق فيه " أمين مليا : شكرا عمي الجيلالي ،رافقتك السلامة .
- - سلامتك أنت ، تستطيع الخروج ، كل المسالك مأمونة ،
- يساوره الشك ، " كيف يعرف عمي الجيلالي أن المسالك مأمونة ، ألا يكون له ضلع في تحركاتهم ، كيف يدرك ذلك ، ألا يكون من زمرتهم ، هذا احتمال ، فقط ، سرعان ما يطرد هذا الهاجس .
- يرتدي " أمين " جاكيته " الرمادية وقبعته البيضاء ونظاراته السوداء، يدفع رجليه المتثاقلتين نحو الباب الخارجي ، يفتح الباب الخلفي المؤدي إلى أحد الأزقة الصغيرة ، يتسلل خلسة نحو الرصيف المقابل المكتظ بالمارة ،لا يتعدى الرصيف الموازي للمخبزة ، سرعان ما يؤوب مذهولا ، صاغرا .
، مثلما لحظاته التي لاتتحرك، الزمن لديه جسم هامد أيضا لا يحترف إلا الانصياع
تتحرك مثلما انصاعت طائرات عربية في نكسة 67،،،يغرز بصره في الخبز. .لحظاته وخطواته لا تعرفان إلا الانصياع هي الأخرى ، يتوقف عقربها عند عنقود عنب تركه عمي مسعود على ظهر كيس مجففا ، يحمل ظنون ومآسي أيام ،وتضاريس أزمنة بائسة قضاها عمي مسعود بإحدى منافي الحقبة الاستعمارية بمحتشدات " كيان "، لم يمسسه "أمين "بسوء ، حدق فيه مليا ،
...يعرف سر العنقود ...وحكاية الراهب ، "أبو مقار "ومآسي عمي مسعود بمعتقل كيان ، ودير " ألانبا مقار " شمال مصر ، وصحراء سيناء والسد العالي ومعبر "قناة السويس ".
يرابض العرق على جبينه كما ترابض الدجاجة على بيضها ...ترابض اللحيظات هي الأخرى أمامه ، يتناول شريحة بصل ، يتمتم : " رب هذا اليوم تواق إلى تطلعات ، سأسحب فيه فرحي من أرقي وأمضي ، قد لا يقابلني مكروه هذا اليوم ، ساعات عملي انقضت ، وقد أمن لي عمي الجيلالي كل المسالك إلى غاية صديقي "حميد " حلاق الشباب " "حميد " القافز" كما ينعته شباب الحارة " بإشارة أرمقها من كوة القبو الخلفي للمخبزة ، إيماءة نتفق بشأنها كل مطلع شمس .
التقطها مشفرة هذه المرة ،ظلت تبدو له محفوفة بالمخاطر ، تنذره بمكروه أو خطب قد يحصل بمجرد خروجه ...
ترتطم رعشة بجسده ، تصعقه كشرارة كهربائية ، يؤوب إلى عنقود العنب المجفف ، يحاوره :" حكايتك أطول من زمن عمي مسعود ، أقرأ فيك ثلاثية الأبعاد الأسطورية الثلاثة :(
- حكاية الراعي الذي وجد بالفيافي عنقود عنب في غير موسمه ، فأبى إلا أن يكرم به السلطان ،
- حكاية الراهب مع عنقود العنب الذي أهداه للقديس .
- حكاية عمي مسعود في " تخمير " العنقود بخميرة المخبزة ، وتحويله إلى جرعة " خمر " عندما لا يجد ما يقتني به قنينة " خمر " .
ثلاثية تأسره ، يحتدم بها ، لا تفارقه زفرات تتوالى بداخله ، تأسره هي الأخرى .
"إيماءة عمي الجيلالي هذه المرة توحي بشئ ما "
،يتنصل من تردده ، وفي حركات هلامية يضع خرقة بالية على عنقود العنب ،لعل روحا تسري بجسد العنقود فتطرد عنه هستيريا لا تفارقه أو توقظ ماردا يساعده على تفكيك هذه اللحظة الخرساء ، أو يفرز هذا العنقود خوارق ، كما تذهب بشأنه الأساطير والحكايات الشعبية "كل هذا بدا له وهو مشدوه ، مذهول أمام لحظة صماء ، وقد ركنت إلى قيلولتها في عز الصبح ؟؟؟
شخير اللحظة
تطوّقه حيرة قاتلة ، كهدف الحسم في مباراة في أخر عمرها ...يحفر أثلاما بذاكرته وبقيلولة اللحظة في عز الصبح ، يغرسها صمتا مدويا ، يفجّر أرجاء القبو ،ليختلط هذا " النحت" بشعاع خافت لشمس صبح أطل في استحياء من دورة المياه ،المنفذ الوحيد الذي يطل منه هذا الشعاع لبرهة قد لا تتعدى نصف الساعة يدرك غالبا من خلاله أن الساعة تقارب التاسعة صباحا .فيحتسي قهوته الباردة ، ، معتمدا في ذلك على زميله " كريم " الذي يضعها بمحاذاة الفرن لتسخن ،فيوقظه بلمسة يد على كتفه ،فينهض مذعورا في أغلب الحالات ، كأن به مسٌّ ،
"كريم " يستغرب هذه " الوثبة " الغير عادية .لا يعلق ، بقدر ما يتساءل في قرارة نفسه عن هذه الحالة الهستيرية ؟؟؟.. يرتشف قهوته في نهم جرعة واحدة ، يردمها بنفس من سيجارة .



كالحية تطرح اللحظة شخيرها في وجدان " أمين " يتقيِها تهنئة للمارة ، دولابا ينخر تردده وانصياعه ...وتأرجحه بين مغادرة المخبزة أو البقاء إلى غاية تأمين المسلك مرة ثانية من قبل عمي مسعود ، هذا الأخير انصرف ، قد يكون انصرف إلى شؤونه ، يظل " أمين " في حيرة .أيرشق المارة من ثقب الكوة الصغيرة ، أم يؤوب إلى عنقود العنب المجفف ليسقيه بشخير اللحظة ؟
تنوب عنه مؤقتا شمس الله الساطعة في توزيع أنوارها وابتسامتها على المارة ، تتربع على سفح السماء ، فيما يزداد خفقان اللحظة الهلامية ، تتربع لتركع من "عرق " أمين المتصبب ، وهو واقف أمام عنقود العنب الذي لم يجد خيارا إلا بالعودة إليه ريثما يرتب شؤونه ،يستنهض ذاكرته ، يناجيها ، يرحل إلى غابر أيامه وغابر أيام عمي مسعود في "ديان بيان فو " في فيافي "سيناء و"قناة السويس ، ونسائه الست التي طلقهن جميعا ، إلى رواية " الخبز الحافي " للروائي المغربي محمد شكري التي أنهاها سنة 1972 ولم تر الرواج والشهرة إلا في الثمانينات ؟عن سر بدانة أحصنة القصور الارستقراطية الملكية في بريطانيا ونظيراتها العربية والبربرية الرشيقة ، الأولى تجوب قصور الملوك ، والأخرى تدك أرض الأسواق الشعبية المملوءة بالوحل ، وتجر عربات من خشب ، والأخرى مكسوة ظهورها بالحرير ؟؟؟
جذوة هذا " الحفر " تحرقه وتؤرقه .
شخير اللحظة " يعوده " كأنه مريض طريح الفراش ، لا يقوى على التنفس أو الحركة
، زملاؤه في العمل لا يعرفون قيد أنملة عن مأساته ، يغازلهم بالمجاملات ، ويستتر بأمية ضاربة في جذوره ، يحدثهم دوما عن إخفاقه في الدراسة ، فكان هذا قدره " هذا العمل بالمخبزة " مثلما يحدثونه هم أيضا عن مأساتهم الاجتماعية ، وتفكك أسرهم ووضعياتهم الاجتماعية المزرية ( مشكلة سكن ، تعاطي مخدرات ، انحراف ، وطلاق .
رضا " المقرب إليه ، "موازني ) يزن الخبز بالتمام ، بواسطة ميزان صادق ، يفاتحه في مأساة حدثت، عن أمه التي هاجرت أباه إلى فرنسا ،وتعلقت هناك بشاب من أصول إسرائيلية ، تركته مع اثنين من أخوته ، ( بنت وولد ) وأبوه المعتوه ،المعوق من جراء الصدمة ، "رضا" لا يتعدى العشرين من عمره ، يعيل هذه العائلة العرجاء ، حفاظا على أخته من الانحراف ، " سعاد أخته التي تكبره بسنتين تدرس بالجامعة، سنة ثانية (أدب ) ، بعد الدوام تشتغل منظفة " خادمة عند إحدى النساء الثريات بأحد الأحياء الراقية ، تغدقها بالهدايا ، وبالملابس القديمة ، والأكلات المحفوفة " بالدسم " .
تناديها " لالة " فيما اسمها الحقيقي " رقية " .استبدلت اسمها ب" نرجس " لأن الاسم الأول لا يليق بمقام محيطها من الأثرياء والثريات بطلب وبإلحاح من بعلها الذي يصطحبها في الولائم والحفلات الفنية ، " نرجس " عاشت حياة طفولية تعسة ،بائسة ، لم توفق هي الأخرى في شهادة البكالوريا ، فاشتغلت عند بعلها " رشيد بمعمل " البسكويت " "مصففة علب " ، تعلق بها " رشيد " فتزوجها من دون ،بقية العاملات ، لا يتعدى عمرها الثلاثين سنة على قدر وافر من الجمال فيما " رشيد " يشرف على الستين لا يتعدى مستواه الطور الابتدائي .
زوجته وأم أولاده الستة تمضغ قدرها بإحدى قرى الجنوب مع أولادها ، لايتوانى في " إغداقها " من حصص الزكاة التي يوزعها كل حول من مال " السحت " كما حدثها إمام القرية ،هذا الأخير تستفتيه في كل صغيرة وكبيرة على غرار سكان قريتها،هاجرها إلى إحدى المدن المحورية المركزية ، حيث ينتصب معمله ، الذي شيده بواسطة قرض من البنك ، وقد باع كل " الشويهات " ليصب عائداتها في " الحصة " المطلوبة من البنك لقاء قرض مرتفع ،وقد تحصل عليه بواسطة وسطاء ورشاوى .
يرتشف "أمين" تداعياته في فنجان قهوة وضباب سيجارة ، يستقيم ، عنقود العنب المجفف شاهد ، أخرس ن لكنه ينطق في غور تجلياته ، يسرد أزمة عمي مسعود في " صمت ناطق " كاتم للصوت كما البندقية التي تصيب غالبا كبار المسؤولين ، والساسة.
لا مناص له من أن يغادر المخبزة مهما كات التكاليف ن والمخاطر ،
على مرمى تيه
على مرمى تيه سقط المدى في تردده كما سقطت بغداد تماما، انهار مثلما انهارت قواه ، لكن لا مناص من يغادر المخبزة ،
تسلل " كما العجينة من الخبز " من أمام عنقود العنب .
كان بالشارع إنسا منسيا أو نملة تدب ، وتسعى ،المدى ظل أرجوحة في مخيلته ، وهو يمشي بين المارة المنشغلون بشؤونهم كأنه بهودج يترنح ، حملته عروسة " الريب " إلى غاية حميد الحلاق مظلة واقية .
أدركه ، وكأن الأرض كانت ترتج من تحت قدميه . حميد " وكالة أنباء "يتردد على محله الشباب والشيوخ والكهول ، ديبلوماسي ، مرح ، يعرف كيف يجلب الزبائن ، لا تفلت منه حادثة عرفتها البلاد ، وهذا بفضل الذين يترددون على محله ، هو أيضا يعرف كيف " يستل ألسنتهم " للحديث ".يورق الكذب والصدق تماما كما تورق شجرة يانعة في ريعان شبابها تمارها ، كل الفصول فصوله ، لا فصل له إلا ذقن أو شعر " يحلق " يداهن صاحبه مهما كانت وجهته السياسية ، لا يعارضه فيما يقول ، وغالبا ما ينسج لزبائن لا أصل لها في الواقع في محاولة لاستدراجهم ، كأنه مخبر شرطة ، أو " محقق مباحث " ...أدركه " أمين " يتوجس خيفة " من أحد الزبائن ، كان يتصفح جريدة يومية بها أخبار مذهلة ،تبادل معه الحديث في حذر كبير ، تفحص مليا قسمات وجهه وبعض تجاعيده ،يشرف على الخمسينات ، بوجه عريض حليق حديثا لا يوحي لآمين بأن صاحبه جاء يحلق ذقنه ، بقدر ما توطنه الخوف بأنه في مهمة لا قتناصة ، وربما يكون على علم بأن أمين يتردد على هذا المحل ، تحدث الطرفان عن الرياضة ، ولم يتعديا في أزيد من نصف ساعة هذا الفضاء الرياضي ، ارتاح أمين بعض الشيء، سكنته طمأنينة عابرة محفوفة بالشك ،
هدوء حذر سادهما .
يدخل زبون آخر بجبين شحيح كأنه يحمل هموم كل الدنيا ، ابتسم له " حميد " : مرحبا " سمير " كيف حال المسابقة ، هل وفقت في الامتحان الشفاهي ، لا تقلق أغلب أعوان الشرطة والمباحث وحتى محافظ الشرطة أعرفهم ، أغلبهم يحلقون رؤوسهم عندي ، قد أساعدك ، في تخطي مواد المسابقة .

(97)    هل أعجبتك المقالة (94)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي