أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ما أبهاك دمشق عاصمة للغة العربية

لا شك أن الذين يطلبون بتنحية هذه اللغة هم الذين يطالبون بالقضاء على تاريخ الأمة العربية كلها

 دكتوراه في الإعلام - فرنسا

رجعت ذاكرتي فور سماع الخبر، إلى خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس بشار الأسد، أمام مجلس الشعب في الشهر السابع من العام المنصرم. وكأي سوري، وبالأحرى كأي عربي، كنت متشوقاً للاستماع للرئيس لأفهم السياسة السورية أكثر، ولأعرف موقف سورية من الضغوط الهائلة التي تعرضت لها في تلك الفترة.
وبالفعل فقد تابعت الخطاب كلمة بكلمة، بل وإشارة إشارة. ولا أخفي أنني سررت وقتها بحديث الأسد، وتركيزه على اللغة العربية ، وحثه الأمة على الاهتمام بها، وربطها بالتاريخ والدين.

لم يكن اهتمامي نابعاً فقط من محبتي للغة العربية وتبجيلي لمفرداتها وقواعدها ، بل أيضاً لأنني كنت قد كتبت مقالاً قبل الخطاب بأيام معدودة انتقدت فيه الزعماء العرب الذين يخلطون العامية بالفصيحة، والفرنسية أو الإنكليزية بالعربية، ناهيك عن الهندية والأردية وغيرها الكثير!!.

ولا شك أن ذلك الخطاب وتلك الكلمات كانت كماء بارد في يوم حار، فقد تعبت من الاستماع إلى القادة العرب وهم يتكلمون باسمنا ولكن بلغة غير لغتنا، حتى أن أعضاء الجامعة العربية أنفسهم، يتكلمون باللهجات المحلية، وكوني لا أتابع الأفلام والمسلسلات، فأحتاج إلى مترجم كي أفهم كلمات مثل" البتاع ده" أو أُمّال".

ولا أنسى أن زعيماً عربياً كان يحاول أن يتكلم الفصحى في خطابه، فوقف عند كلمة مثنى، واحتار أن يلفظها بالألف أو بالياء، فقال" ما في مشكلة اثنان أو اثنين حتى الكلام بالعامية ينقذنا من النحويين". وهذا الرئيس ليس شاذاً بين إخوانه من الزعماء والقادة والعرب، فكلهم في الهم سواء، وظني بهم أنهم يحجمون في كثير من الأحوال عن إلقاء الكلمات والمشاركة في المؤتمرات الصحفية لضعفهم الشديد في لغة آباءهم وأجدادهم.
وللحق فإن بعض هؤلاء القادة يصرّ على الحديث باللغة العربية الفصيحة، فيتدرب الليل ويتمرن النهار في سبيل إتقان ما عليه قوله، ولكن الفاجعة بعد ذلك تكون في قول أحدهم: يريدون القوات الأمريكية، يقصد تريد القوات الأمريكية، وغيره جر فاعلا و رفع مجروراً كمثل ذهب خالدٍ إلى الحديقةُ، فجرّ الفاعل ورفع المجرور، والأمثلة أمامي كثيرة.

النبأ الذي سمعته وذكرته مطلع حديثي، هو أن الحكومة السورية، تخطط أن تجعل دمشق عاصمة اللغة العربية الفصيحة، في إطار استعداداتها للاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية. وقد جاء في ثنايا الخبر، أن الجهات المعنية، ستمنع الأسماء الأجنبية للمحال التجارية، وستستبدل الموجود منها بأسماء عربية. وستوجه، خاصة رياض الأطفال، للحديث مع الصغار بلغة سليمة وبسيطة في آن معاً.

الخبر، الذي أيده كثير من المهتمين والمثقفين والكتاب والصحفيين، لم ينج من التقليل والتهكم ممن يرفع المنصوب ويعرب( إلى) فعلاً ماضياً. فقد استهزأ بعض "الرّوم" من أن الحكومة ستطلق على مطعم مثل" لا فونتانا" اسم النافورة. فهذا "الرومي" لا يعرف بالضبط معنى كلمة نافورة ومن أين جاءت وكيف أنها تحتوي على نفور الماء ونفرته،  وتشرح المعنى عند لفظها مباشرة، مع ملاحظة أنني على يقين أن هذا الشخص لا يعرف من أين جاءت لفظة "فونتانا" وكيف تلفظ في أصلها وما دلالاتها. وإنما ابتلانا الله، جل وعلا، بمن لا يعرف أن "علا" هذه معناها ارتفع وليست حرف جر. ولا يعرف الحديث إلا معترضاً، من باب "خالف تعرف".

إنني، لا شك، أقدر مخاوف التجار وأصحاب العلامات التجارية، وأصحاب الامتيازات من الشركات الأجنبية حال تغيير أسماء محلاتهم، إذ تعود الناس على هذه المحلات بهذه الأسماء. ويستطيع هؤلاء الأشخاص حتماً إيجاد حل توافقي مع الحكومة يرضي الأطراف كلها. والعتب ليس على هؤلاء السادة وإنما على الذين لا ندري لماذا يحاربون لغتهم ويسعون إلى التقليل منها، حتى قرأت مقالاً لأحدهم يشتم فيه "الكسائي" و"الحريري" و"سيباويه" لأنهم قعّدوا هذه اللغة وساهموا في حفظها وإعلاءها.

وهم لا حجة لهم بذلك، إلا أن يدافعوا عن تعلم الإنكليزية والفرنسية، ونحن لسنا ضد ذلك فمن عرف لغة قوم أمن شرهم، وما قلنا هذا في قرن صناع الموت الأمريكان بل قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، وكان الشافعي رضي الله عنه، يعرف عدة لغات ، وكان مترجماً وغيره الكثير من علماء هذه الأمة.

ونحن في الوقت الذي نحيي فيه من يتعلم اللغات الأخرى نطالب أبنائنا بتعلم العربية، فهي لغة ديننا وتاريخنا وهويتنا الثقافية شاء من شاء وأبى من أبى.

ولا شك أن الذين يطلبون بتنحية هذه اللغة هم الذين يطالبون بالقضاء على تاريخ الأمة العربية كلها، وهم الذين يتربصون بنا الدوائر، ويعشقون كل ما هو أجنبي ولو كان شتماً لهم وإهانة لثقافتهم، فالذي يحس بأنه مغلوب يعجب بغالبه ويتبعه حتى لو دخل جحر ضب، فالمغلوب مولع باتباع الغالب يتبعه ويخضع لديه.

أما الجزء الآخر من الخبر والمتعلق بتعليم الأطفال اللغة العربية السهلة والصحيحة وإجبار المعلمين والمعلمات على الحديث إليهم بلغة سليمة، فإنه تصرف يستحق الاحترام والتقدير، وهذا هو بيت القصيد، فلو تعلم أبنائنا اللغة العربية الصحيحة سينجحون، لا شك، في تعلم اللغات الأخرى بيسر وسهولة، وسيستطيعون فهم التاريخ العربي والإسلامي، وفهم التراث والشعر العربي والمتون وأمهات كتب التاريخ العربية. وهذا ما نحتاجه على وجه الخصوص، جيل يعرف كيف يتكلم، متسلح بتاريخ زاهر، ومتنور بالعلوم الحديثة أيضاً.

عندما أقرأ كتب الأولين تصيبني الحسرة على الآخِرين، فقد حدث أن قاضياً عربياً طلب شهادة طفل، فسأله: أ رأيت اللصين، قال نعم لقد رأيت الرجلان، فقد رفع الطفل المثنى المنصوب، فما كان من والد الطفل أن صرخ بأعلى صوته يا ويلي فضحني ولدي ..فضحني ولدي. في تلك الآونة لم يكن العرب ضعافاً ولا مهزومين ولا عبدة لجورج بوش، وكانوا دولة واحدة وليس ثلاثة وعشرين دولة أو يزيد. وكانت المرأة تمشي من العراق إلى اليمن لا تخاف إلا الذئب على غنمها.

أما اليوم فدول عديدة، وقوة ضعيفة وإرادة مهزومة، ويفتخر العربي بمساعدة أعداء الحضارة الأمريكان على الفتك بأمتنا وتمزيقها.

إنني في الوقت الذي أحيي فيه الحكومة السورية على قرارتها الصائبة هذه، أنصحها أن تتخذ خطوات أخرى على طريق تحسين مقدرة المعلمين اللغوية في المستويات كلها، من الابتدائية إلى الجامعات، وكذلك مراقبة الصحف الإلكترونية والمطبوعة من الناحية اللغوية، ففي صحيفة واحدة في مقال واحد وجدت رئيس التحرير قد كتب "حوالي عشرون وجاء أهليك". وما هذه بعربية ولا مسمارية والله المستعان على ما تصفون.


د. عوض السليمان - زمان الوصل
(123)    هل أعجبتك المقالة (133)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي