أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أنصاف الرجال و إنصافهم ..... زياد المحمود


في العام 2006 وبعدما " تحركش " حزب الله باسرائيل عن طريق خطف اثنين من جنودها , شنت اسرائيل حرباً سميت فيما بعد
بحرب تموز أحرقت فيها الأخضر واليابس استمرت لمدة 34 يوماً وانتهت بالقرار 1701 لمجلس الأمن الذي نص على على إنهاء
العمليات القتالية من كلي الجانبين وإضافة 15000 جندي لقوة "يونيفيل" لحفظ السلام مع انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى الخط الأزرق
وانسحاب قوة حزب الله إلى شمالي نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب اللبناني, يومها طلع علينا الأسد الابن بخطاب أقل
ما يمكن أن يقال عنه أنه كارثي ,تبجح فيه "بالنصر " المزعوم و وصف فيه الزعماء العرب الذين أبدوا استهجانهم لهذه المغامرة غير
المحسوبة بأنهم " أنصاف رجال " , كان لهذه الكلمات أثر كبير كما تبين لاحقاً إذ أنها شكلت أول تجاوز فاضح للمعايير القانونية
والأخلاقية المتبعة في الخطاب السياسي والإعلامي السوري الرسمي في التعامل مع القادة والذي كان معروفاً في عهد الأسد الأب
بالهدوء والابتعاد عن ردات الفعل الآنية حتى مع خصوم من وزن صدام حسين.

لم تتأخر طبعاً نتائج ومفرزات هذا الفعل, فوصلت العلاقات بين مصر والعربية السعودية من جهة والنظام السوري من جهة
اخرى إلى حد القطيعة ,ونقل عن العاهل السعودي غضبه الشديد وتوعده بأن يجعل هذا "الولد" يدفع ثمن كلامه عاجلاً أم آجلاً .

كانت بوادر الزعرنة قد ظهرت على الرئيس الوريث قبل ذلك حين وصف في إحدى خطبه الكارثية رئيس وزراء لبنان فؤاد السنيورة
بأنه "عبد مأمور لعبد مأمور "ولم تمض الشهور وما كادت الأيام تمضي حتى انبرى زعيم الطائفة الدرزية في لبنان وليد جنبلاط في
مهرجان خطابي إلى وصف الأسد الابن بأشنع الألفاظ ضارباً بعرض الحائط كل التحذيرات التي نصحته بعدم استهداف شخص الرئيس
والتي ذكّرته بالمصير الذي لقيه والده كمال جنبلاط ( أو المعلم كما يحلو لمريديه تسميته ) حين غضب منه الأسد الأب لأنه ألمح في
إحدى الجلسات بينهما إلى كون الأخير ينتمي لطائفة تعتبر أقلية في سوريا , ربما كان جنبلاط الابن على حق (تلك المرة على الأقل !) ,
فالأب شيء والابن شيء آخر.

كانت حرب تموز الطريقة التي ظن الأسد الابن أنه يرد بها الصفعة التي تلقاها في 2005 عندما اضطر الجيش
السوري الى انسحاب مهين من لبنان , هذه الصفعة التي جعلت الشارع السوري بشكل عام والمقربين والعائلة بشكل خاص يشكّون
بقدرات الوريث على ملأ الفراغ الذي تركه رحيل العراب.

لاثبات وجوده , استخدم الشاب الجاهل بأمور السياسة وخباياها ورقة حزب الله وخرجت صحف نظامه في اليوم التالي تمتدح الخطاب
وتنشد أهازيج النصر وتلعب على المشاعر العروبية وتستثير عواطف الشارع مستغلةً معاداة الأخير لاسرائيل حتى العظم ,هكذا ظهر
الأسد الابن لمؤيديه كبطل قومي وكرجل مواقف ينادى باسمه في المحافل القومية ويحلف برأسه في التجمعات الناصرية (أو هذا ما خيل
إليه).


سرعان ما أدرك الأسد الابن فداحة ما آلت اليه الأمور بعد خطابه الكارثي ,وبدأ المحيطون به يخافون من نتائج حماقاته ,وبدأ الهمس في
الأوساط الدبلوماسية السورية وحتى على مستوى الشارع أن تناول رئيس وزراء لبنان بالسوء شيء والتطاول على زعيمي
دولتين لهما ثقل أساسي في المنطقة شيء آخر , و هكذا بدأ محاولات استمرت سنيناً عدة لرأب الصدع و اصلاح ما
أفسد حتى أنه دفع وزير خارجيته وليد المعلم ( أو الطبل كما يحلو لثوار تسميته ) لينفي رسمياً ويعتذر ضمنياً الشيء الذي كان بنظر
المسئولين السعوديين ( الذين وإن قبلوا الصلح على مضض فإنهم لم يغفروا للأسد زلته ...كما تبين لاحقاً ) عذراً أقبح من ذنب .

اندلعت الحرب "العبثية" وبدأ تدفق اللاجئين من قرى الجنوب اللبناني (الذين يبدو أن الحزب الالهي لم يحسب حسابهم ولم يهتم لما
سيحصل لهم) فقام العديد من السوريين باستقبالهم في بيوتهم بعد ان تخاذلت الحكومة السورية عن بناء مخيمات وملاجئ لاحتوائهم وهبت
العديد من الجمعيات الخيرية والفنانين ورجال الأعمال إلى تقديم المساعدات كل حسب استطاعته وغاب عن هذا المولد بالطبع الواجهات
الاقتصادية للنظام , ذكرتني تلك الأيام بأيام المدارس الابتدائية عندما كانت تأتي لجان للمدارس لتجمع التبرعات للشعب الفلسطيني
وعلى بساطتنا وسذاجتنا كنا نتحمس ونصدق بأن ما نتبرع به سيطعم طفلاً جائعاً أو ينقد شيخاً عليلاً ,ولم نسأل أنفسنا يوماً لماذا لا يقوم
القائد الخالد ابن الخالد وآل مخلوف وآل شاليش بالتبرع مثلنا رغم ان لديهم من الأموال ما لا تلتهمه النيران , لا يزال قلبي يتأجج غضباً
وأحس بمرارة في حلقي رغم مرور الأعوام عندما أتخيلهم يضحكون على سذاجتنا, أكاد أسمع قهقهاتهم تشق عنان السماء
وهم يتبخترون في سياراتهم الفارهة و بيوتهم الفخمة التي من البديهي أن يحوي كل منها على صورة كبيرة للقائد الخالد الجالس بهدوئه
المعتاد وابتسامته الصفراء , كيف لا وهو كبيرهم الذي علمهم السحر.

ثم كان أن وضعت حرب تموز أوزارها وتحقق "النصر الالهي" وبعد أن ذهبت السكرة أفاق الجميع على حجم الدمار
الهائل الذي ألحقه الطيران الاسرائيلي بالبنية التحتية هذا إن لم نذكر ما حدث للسياحة عماد الاقتصاد البناني ,فهب النظام السوري
للمساعدة عبر إقامة اوبريت غنائي عن النصر الالهي للمقاومة هذا بالاضافة الى الحفاوة والاحتفال غير المسبوقين بسميرالقنطار
.....قاتل الأطفال.

بينما قدمت العربية السعودية مساعدة مالية بقيمة خمسين مليون دولار للحكومة اللبنانية أتبعت بمساعدة أخرى قيمتها خمسمائة
مليون دولار ثم بوديعة مالية في المصرف المركزي اللبناني قيمتها مليار دولار، ثم اتخذ العاهل السعودي لاحقاً قراراً بتسديد رسوم
تسجيل كل طلاب لبنان في المدارس الرسمية وقيمتها عشرون مليون دولار, إضافة إلى المساعدات الانسانية والغذائية والطبية من خلال
مستشفى ميداني استمر لأشهر يعمل في لبنان ويقدم خدماته لكل اللبنانيين بغض النظر عن انتماءاتهم .

أهم بركات ثورات الربيع العربي هي أنها أحيت فينا نقض المسلمات والتفكير الموضوعي وهما الأساس لتطور أي مجموعة بشرية
وهكذا بدأنا نعرف أن بناء المدارس لم يكن من منجزات الحركة التصحيحية ,وأن وصول الكهرباء للأرياف ليس منةً من القائد الخالد
وأنه (أعني القائد الخالد) لم يكن قائداً كما كنا نتصور وليس خالداً كما تبين لاحقاً ! ,وأن ابن الرئيس ليس رئيساً بالضرورة.......

الآن وبعد مرور سنوات على ذاك الخطاب وبعد أن بدأت شعوب المنطقة تمسح عن أعينها غشاوة العاطفة وتفكر بموضوعية وتعقل
لنأمل بأن تكون هذه الشعوب في المستقبل قادرةً على إنصاف الرجال من أنصاف الرجال .



(122)    هل أعجبتك المقالة (106)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي