أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شارع الصحافة ... الصادق النيهوم

 اذا حملتك قدماك الى شارع مليء بالشحاذين والحواة وجرادل القمامة التي يلقيها السكان من البلكونة على رؤوس المارة فلا تدع الدهشة تعقد لسانك --إنك تقف --دون أن تدري بالطبع -قي- -شارع الصحافة . وانت هنا في هذا الشارع المدهش ، مجرد بقرة بلا ذيل -- إنك لا تستطيع ان تعتمد على حماية الشرطة ، ولا تستطيع ايضا أن تعتمد على قبضتك أو تفعل شيئاً في العالم ضد حزم الجرائد التي تسقط فوق رأسك من كل البلكونات . ان كل ما في وسعك ان تعمله هو ان تواصل المشي في شارع الصحافة الممتد من المحيط الهادر الى الخليج الثائر سابقاً وتقرا الصحف العربية الصادرة في المنطقة وتأكل خطباً حتى تصل الثقافة الى أذنيك . ولا بد أن يصلك أول جردل بيد رئيس التحرير نفسه . ولا بد أن يثبت لك ذلك الرجل الطيب القلب انه قد انفق ليلة البارحة ساهراً بحانب آلة الطباعة لكي يعد لك افتتاحية الصباح ويجعل صباحك لبناً مخلوطاً بقليل من الثقافة . وأنت معرض بالطبع لأن تموت من الاعجاب بمهارة السيد رئيس التحرير في خلط اللبن ، ولكن لا تدع ذلك يشغلك عن مهاراته في اعداد بقية الوجبة . ذلك يعني عن أي شيء حقاً من ابادة اسرائيل الى ابادة دودة القطن وسوف يفعل ذلك دائماً في حدود المصلحة العامة ويضربه بالملعقة مع اضافة قليل من الأشعار والملح ويخلطه بخبطة نهائية تخص أي مخلوق يضعه سوء الحظ في طريق السيد رئيس التحرير --- وعندما تنضج الوجبة في نهاية المطاف يرش فقوقها بعض النصائح الموجهة الى الشحاذين في الخارج ويدلقها فوق رؤوسهم من البلكونة . ذلك يحدث في البلاد العربية خدمة للمصلحة العامة . وحكاية مكاسب الشعب أيضا وتحقيق وحدة المة وبعض الخدمات الجانبية --- ورغم ان الافتتاحية تستطيع احيانا ان تتناول موضوعا معقدا لا علاقة له بالشعب التائه تحت البلكونة مثل الهبوط على سطح القمر ، فإن السيد رئيس التحرير يمكنه دائنا أن يجد حيلة ما لربط القمر بالمصلحة العامة انه- عادة- يبدأ تلك المغامرة الشعرية بطلب فنجان من القهوة بدون سكر ثم يشعل لفافة تبغ ويشتم الأمريكيين الذين وضعوه في هذا المأزق ويكتب الافتتاحيات الفظيعة رغم انفها -وعندما ينظر من البلكونة ويكتشف فجأة ان الشعب المشار اليه ما يزال يعتقد ان الارض تدور على قرن ثور ، يكتب له في الافتتاحية ان السيد ارمسترونغ قد رفع عينيه بدون تعمد فوق سطح القمر ورأى الثور معلقاً في الهواء . ذلك يحدث في الصحف العربية لأن رؤساء التحرير يفرطون في شرب القهوة بلا سكر ولأن احدا منهم لا يهمه ان يرفع الشيطان نفسه رأسه لكي يرى الثور ، مادام ذلك يساعده على ربط القمر بالمصلحة العامة ، فالمهم ان يحتفظ الشعب بثوره ، ويحتفظ رئيس التحرير بوظيفته ، ويعيش كل امرئ هادئ البال بغض النظر عن رائحة الكون المتوقعة اذا كان حقاً مجرد اسطبل للثيران .   الافتتاحية وجدت لكي يعرض فيها عواطفه النبيلة ، ويدق فيها طبلته للسياسيين ويهتف وراءهم بإبادة اسرائيل مرة وبالحل السلمي مرة وبالوقوف على الرأس وقت الحاجة والتمسك بأهداب الفضيلة وتنقية مياه البحر ولإنشاء محطة للأوتوبيس واقامة ملجأ للشحاذين السعداء . ذلك لا بد أن يقوله رئيس التحرير كل يوم ------لكي يثبت لمواطنيه أن الصحف العربية لا تريد شيئا في العالم سوى ان تراهم يموتون من السعادة . أما أن تراهم يعيشون مثل بقية البشر ؟ أما أن تقف للدفاع عن حقهم في الحياة مثل غيرهم بالضبط ؟ وتعمل على حمايتهم من الحواة السياسيين وباعة الأفكار والأحذية القديمة والمتشردين الشيوعيين والفقهاء الميتين بالعقم وأضرحة الأولياء وعمليات التقديس والقهر الفكري ؟ ----- وكالعادة تسقط الأمة العربية في حفرة ما ، ، ويستدير رئيس التحرير وينطلق مرة اخرى في الاتجاه الجديد مزودا بالطبع باستعداده الفطري في كتابة الإنشاء . ويلبس لكل حالة لبوسها ، رغم أن لا أحد من اصحاب الحكومة الجديدة يملك الوقت لإضاعته في مشاهدته .ولكن رئيس التحرير لا بد أن يقوم بواجبه ويدلق جردله الصباحي على رؤوس المارة .   وقيما تبدو صحف العالم بمثابة منصة يومية لمنجزات الفكر الخلاقة ، وفيما تنطلق كل الشعوب العظيمة في مسيرتها الآمنة وراء صحافتها ، يظل رئيس التحرير في البلاد العربية يتشقلب في البلكونة بالمجان ويستبدل الأقنعة السياسية كل يوم . ولدينا في المنطقة - من المحيط الهادر الى الخليج الثائر سابقا - أكثر من ألف رئيس تحرير . ولدينا شارع الصحافة الذي يمتد على طول الأمة العربية مزوداً بكل الاستعدادات الفطرية في كتابة الإنشاء . ولدينا أيضا الف موضوع انشاء كل يوم . ومع ذلك فإن المرء لا يستطيع أن يجد سبباً واحداً لموت الشعوب العربية - الذي يراه العالم بأسره- سوى أنها - بطريقة ما قد ماتت نن السعادة .فالصحف العربية لا تذكر سببا آخر -- انها في الواقع لا تذكر شيئا على الاطلاق سوى أن الحاكم الجديد قد وصل هذه المرة جاملاً مفتاح الجنة وانه وجد ذلك المفتاح صدفة فاذا حدث تغيير آخر فإن الصحف العربية تسارع الى القول بأن المفتاح السابق كان مزيفا . وأن الجنة سوف سوف تفتح أبوابها هذه المرة --- الشعوب العربية تعيش داخل دوامة فكرية مميتة  وتلهث بلا انقطاع لملاحقة كل الافكار المريضة والمستوردة ، ويقودها المتشردون الشيوعيون والامبرياليون والقوميون وقطعان الفقهاء الجهلة وعساكر البندر وباعة القيم الجاهزة الصنع .

بونجور شام
(132)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي