وأخيرا تحقق حلمي ووصلت إلى الوطن الحبيب ،كم سأعانق صغاري وأضمهم، كم سيفرح البنات بلقائي وبالهدايا، حضرت كلاما كثيرا لزوجتي، لأهلي ،لأصدقائي ، للشرفة والشجر والحي ، لكل الأماكن .
سلمت الجواز ليختم ، لم يبق من عناء السفر إلا القليل، دخل جوازي ولم يعد. كل زملائي استلموا جوازاتهم إلا أنا.
بدأت أحلامي تذوب، وشرع القلق والرعب يساورني، فربما قد وصل للأمن أني قد تكلمت بكلمة (برا الطريق) ولا تروق للنظام هنا أوهناك في الغربة.
حاولت استجماع ذاكرتي ،ولكني لم أتكلم بشيء، فقد التزمت أمر أبي بأن أقص لساني الطويل.
ثم تذكرت .
إنه هو ،إنه أبو باسل لا غير، وهو (منحبكجي قح) فقد حدثته عن تفشي الرشوة في سوريا.
ثم تذكرت أنه أجابني بأن على الإنسان أن يكون (حربوقا قد حالو) يرشي ويرتشي، ويعرف من أين تؤكل الكتف ، فالدنيا أخذ وعطاء ، وزمن المغفلين قد ولى.
إذن يبدو أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير . وبدأت أعد الثواني،ودقات قلبي تتسارع،ومرت لحظات بعدها لحظات ، والهواجس تحاصرني وتفترسني .

وأخيرا تذكرت . فقبيل الاغتراب كنت موظفا ، وقد تسلق زميل لنا منافق فاسد ولص غير مشهور منصبا في الحزب (القائد) ، وأزاح آخر اشتهرت سرقاته وافتضح أمره وفاحت رائحته، وقد سألني عن هذا الجديد أحد المعارف، ولا أدري كيف زل لساني فأجبته : هو أوسخ من سابقه.
كنت متخيلا أنه لن يتكلم ،وقد لمت نفسي وقتها كثيرا على التسرع ، ولكن عندما مرت أيام ولم يحدث لي مكروه، ظننت أنه قد تجاهل الأمر، ثم سافرت، والآن حان وقت الحساب وعاقبة عدم الالتزام بقص اللسان.
سألت موظفا توسمت فيه الخير عن سبب تأخر جواز( محمد حسن)؟
سمع الاسم ونظر إلي نظرة ،أحسست فيها نظرة مشفق على مصير ينتظرني أنا خائن الوطن .
بدأت أتصبب عرقا ورعبا،وتحول شوقي للوطن إلى حلم بالفرار والبعد عنه ،لعنت اليوم الذي وصلت فيه إلى وطن الرعب هذا، فأنا أعرف ما معنى الاستجواب فقد قرأت قصة القوقعة وما فيها من تعذيب لمسيحي بتهمة (أخونجي) ، وسمعت من آخرين أهوالا وأهوالا.
حلمت أن أكون مع صغيراتي وزوجتي في مكان بعيد بعيد لا يصله الأمن، وحلمت كثيرا بألا أسلم عنقي للعصابة مجانا .
كان في الزاوية بضعة عسكريين يتحادثون، أيقنت أنهم يخططون للقبض علي قبل الفرار، ولكن أين المفر ورجال الممانعة على الحاجز من أمامك وأبطال الصمود من ورائك ، وليس لك إلا الدعاء والصبر .
أوصيت زميلي أن يسلم حقيبتي وفيها هدايا لبناتي الصغيرات ،إنهن منتظرات وقد لبسن أجمل ما عندهن، لقد تحضرن للهدايا والعناق ،وتصورت مشهد بكائهن مع أمهن وهي تأمر بالهدوء ، ولكن بنحيبها التي تحاول كتمانه تزيد من نحيبهن.
حاولت استبعاد المشهد، واستجماع قواي لأستعد بكلمات أواجه بها المحقق الرهيب.
لم أفق من المشهد المرعب إلا على صوت مرعب أكثر يصرخ : محمد حسن.
. يا للهول ، لقد حلت المصيبة.
ومرت ثوان طويلة ولم أرد. وأحسست بالحاجة للذهاب إلى الحمام، ولكن الصوت الرهيب عاد يصرخ ثانية : محمد حسن...ولم تسعفني قواي إلا بشبه صوت لأجيب: نـ ـعـم.
رد الصوت المرعب: أنت أطرش خذ جوازك وانصرف. ورمى الجواز .
أسرعت لالتقاط الجواز وأنا أتنفس الصعداء .
في الدول الراقية يحاسب الموظف على هذه الجملة النابية . أما عندنا فقد وقع علي الصوت بردا وسلاما ،إنه اللطف بعينه، آه ما أسعدني بهذا الصوت.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية