هل نستطيع اتهام القتلى المؤجلين في العراق بأنهم شعب...وهل نستطيع أن نسمي التوابيت التي تصنعها (حرفة المقاومة الجديدة) بأنها زخرفة لقادم عراقي بهي.
أسئلة تخطر على بال أي متتبع لما يحدث على الساحة العراقية من ادعاءات الرفض والمقاومة والمغايرة ، وكفن حقيقي يلف أغلب شعارات السياسيين العراقيين ومن راقت لهم لعبة السياسة بعد زوال القبضة البعثية الخانقة .
الكل يتحدث باسم العراق ..والكل يتشدق بالديمقراطية ...وجميع المتحدثين على الفضائيات تلفحهم ريح الحمية الوطنية إلى درجة الاختناق من شدة حب الوطن...فما أحلاهم وهم يؤلفون مسرحيات الانتماء ...وما أرقاهم وهم يخرجونها ملمعة منقاة بعد تدريبات على فن الكلام أمام هذه الكاميرا أوتلك.
إنها الساحة العراقية الآن ... وما تضج به من ولادات قيصرية لأسماء تفعل فعلها في الشارع العراقي ...أسماء لم نكن نسمع بها ...ولم يكن حضورها معادلاً لورقة خريف تضفر في الدرب... تعملق فيها الإحساس بالعروبة...وتورم في أنواتها صقيع الاستعراض... حتى تكاد في لحظة ضعف أنساني تصدق أنهم مخلّصو العراق ...وأن المهدي المنتظر نائم تحت عباءاتهم ، و سيلد بعد لحظات من حلوقهم المتشنجة من كثرة حب الوطن ...فهذا يتمنطق بالدين... والآخر يتزنر بالليبرالية ...وذاك يتغنى بليل الأحزاب الماركسية التي تعفن كومبارساتها في الوطن العربي أجمع.
إذاً نحن أمام تجارة رائجة الآن (تجارة الشعارات) ...تجارة تمليها خارطة الحياة السياسية العربية ليس في العراق فحسب ...إنما في جميع بلدان العرب التي تصر على الوحدة العربية (الأكذوبة) التي ربينا عليها صغاراً ..واكتشفنا مدى التضليل الذي مورس علينا ونحن أشبه بالكبار .
دعونا نعترف أن البنية السياسية في الوطن العربي لا يمكن أن تقبل فكرة المغايرة المعلنة عن المسار الذي يرسمه النظام الحاكم ...لذلك ما يبث على الفضائيات العربية من ادعاءات عمالقة ومردة وقفوا في وجه نظام صدام حسين أو أي من صداميي الوطن العربي ..هو مجرد أكذوبة تضعنا أمام فرضية مذلة نسبياً ، وهي
أن السياسيين العرب خارج حدود الأنظمة ..ماهم إلا سانشو بانسا لدونكيشوت الأنظمة ..وإذا أردنا كالجمال أن لا نرى سنامنا ..فيمكننا أن نكتفي بالإشارة إلى السياسيين فقط ونعفي أنفسنا نحن الصحفيين من المساءلة أمام ضمائرنا ...فالواقع يفرض أقسى من مجرد الاتهام ...
نحن جميعاً متورطون إما بمديح الأنظمة أو بالسكوت الخائن أمام ممارساتها ...وضرب من ضروب التوازن النفسي والأخلاقي أن تجرم نفسك قبل أن تبدأ بتجريم الآخرين ...من هنا لا يمكن أن نتبرأ حتى لو تطهرنا ، من أفعالنا تجاه معتقداتنا التي تنمو في الخفاء نتيجة خوفنا ، فتصبح معتقدات ناشئة في السراديب كأي أفكار ظلامية أصولية لا تقبل الشمس...
نحن صحفيون أذلاء ...مهنتنا الوحيدة هي الحيل الشرعية في التآمر على دواخلنا .. مهمتنا الرشيدة أن نرجم الخوف علناً في حس التباهي الفارغ ...وأن نبارك وجوده لحظة التوحد مع الذات ولحظة النظر إلى رغيف الخبز..أنا شخصياً وأنا في كامل قواي العقلية أصرح :
إنني صحفي ذليل ...أصفق لخطابات الحكام ...وأخاف كلاب السلطان ..وأمارس استعلاء على أقراني ممن تجاوزتهم في مكانة مفترضة وكاذبة ...وأحلم بجواز السفر ..لأن سقفي من غبار ...ومعتقداتي مصنوعة بقرارات الشارع والمدرسة وشيخ الطائفة ...أكتب من أجل المال....والمشاريع التي ادعيت أنني بصدد إنجازها لم تكن من أجل الإنسانية والخلود ... بل من أجل مظاهر الترفع عن الاندماج في مجتمع الرصيف الذي أنتمي إليه...لست موافقاً على تبجحي بالانتماء ... بل راكع أمام خوفي من التخوين والتأثيم...هذا أنا ...وكثير من السياسيين الصغار والصحفيين من أشبال وناشئين ورجال يشبهون بعضي..وربما كلي.
بعد هذا التوصيف الذي لا أعتقد أن أحداً يستطيع إنكاره ...من أين يأتي المعارضون الصداميون ...وكيف نبتت هذه الجبابرة التي تخنقنا بحكايا (فضائية) عن وقوفها ببسالة عراقية منقطعة النظير أمام بطشه وجبروته ...وأين كانت ضمائرهم عندما كانوا في غيهم يعمهون أثناء حياته الماجدة ...وعن أي بطولات نتحدث في ظل الفرد المسخ ليس في العراق وحده إنما في سائر أشقائه .
تحزنني حقاً صيحات الاستعراض باسم الوطن على الفضائيات..ويحزنني اعتبار البعض من الساسة أو المتسيسين أن التاريخ تصنعه افتراءاتهم وأكاذيبهم ...ويؤلمني منظر ممثل سياسي لم يحفظ دوره جيداً ليقنع من يشاهد مسرحيته...كما تؤلمني كتائب العسكر التي تسكن في رأسي وتمنعني من التسمية .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية