سأحاول هنا أن أستعرض مجموعة الظروف التي سبقت لحظة ظهور الإسلام تاريخيا و التي تمثل كما أعتقد ليس فقط المحددات التاريخية و الثقافية للإسلام كظاهرة بل العوامل التي حتمت ظهوره في تلك اللحظة التاريخية بالتحديد..كانت الخريطة الجغرا-سياسية قد تشكلت حول شبه الجزيرة العربية بين روما المسيحية و فارس المجوسية و كانت القبائل العربية التي هاجرت إلى حدود تلك الدولتين قد لعبت دورا هامشيا في هذا التشكل و ما رافقه من صراع لكنها في نفس الوقت لعبت دورا هاما للغاية كصلة بين هذا العالم المتحضر و ما يدور داخل شبه الجزيرة نفسها..كانت قبائل شبه الجزيرة تعرف نفسها بناء على الإرث اليهودي - المسيحي خاصة فيما يتعلق بأنساب الشعوب , كانت تعتبر نفسها من سلالة إسماعيل بن إبراهيم و نعرف أن قصة هجرة إسماعيل قد دمجت مع قصة بناء مكة و معها الكعبة و أن جزءا هاما من طقوس الحج التي كانت تمارس في ما يسمى بالجاهلية السابقة على الإسلام و التي أقرها الإسلام كانت ترتبط بهذه الحادثة ذاتها..لكن الصدام و التواصل الحقيقي بين قبائل شبه الجزيرة و الأديان السائدة المرتبطة بالكيانات السياسية القائمة جرى في اليمن جنوب هذه الجزيرة المنطقة الأكثر تحضرا و التي شهدت المحاولات الأولى لتشكيل كتلة سياسية قد تكون نواة لفعل تاريخي جدي..كانت الخرافات عن ملوك اليمن ( الذين سموا بالتبع ) و التي تصل بهم إلى غزو الهند و أفريقيا و حتى الصين دليلا على مكانة اليمن في ذلك الوقت بالنسبة للعرب و على الأهمية الخاصة التي اعتقدت قبائل شبه الجزيرة أن اليمن مخولة للقيام بهذا الدور التاريخي , كانت اليمن منقسمة إلى قبائل تسمى مخاليف أكبرها مخلاف صنعاء و الذي كان رؤساءه يسمون بالملوك , أما إذا كانت قوة ذلك الملك بحيث يتمكن من مد سلطانه إلى منطقة حضرموت فكان يسمى عندها تبعا و مع تراجع تلك القوة تعود الأمور لسابق عهدها من التفكك السياسي..سأضطر هنا لاستعراض بعض هذه الأحداث التي أعتقد أنها كانت حافزا لقيام "دين محلي" في مواجهة الأديان الرسمية لكل من روما و فارس و التي كان انتشارها يعني أيضا انتشار النفوذ السياسي لهاتين الإمبراطوريتين..تبدأ القصة مع الملك الذي دان باليهودية ذي نواس الذي بلغه أن بعض رعيته في نجران قد دانوا بالدين المسيحي فقام ذو نواس بحرقهم بالنار كما ورد في قصة أصحاب الأخدود في القرآن التي نجد فيها تعاطفا صريحا مع الضحايا المسيحيين..لما بلغ ذلك الإمبراطور الروماني جوستين أمر حليفه صاحب الحبشة المسيحي أن ينتقم من ذي نواس فبعث إليه قائدا حبشيا اسمه أرياط تغلب على ذي نواس الذي أغرق نفسه في البحر ثم تمكن أبرهة من أن يتولى قيادة الجيش الحبشي في اليمن بعد انقلابه على أرياط..حاول أحد ملوك اليمن الذي سيصبح فيما بعد من أبطال السير الشعبية و هو سيف بن ذي يزن الحميري الثورة على الأحباش فطلب العون من إمبراطور الروم دون فائدة فلجأ إلى كسرى الفرس الذي وعده خيرا فمات قبل يقوم بثورته ثم عاود ابنه معد يكرب استنجاده بكسرى فمده بجيش تمكن من طرد الأحباش و بعد موت معد يكرب نصب عليها حاكما فارسيا حتى بعثة الرسول..كان للعرب وقتها عدة بيوت للأصنام منها اللات في الطائف و بيت ذي الخلصة و غيرها لكن أهمها طبعا كانت الكعبة في مكة..أراد أبرهة أن يفرض المسيحية على العرب و يقضي على عبادة الأصنام فبنى القليس في صنعاء و هي كنيسة "لم ير لها مثيل في زمانها" و قرر أن يتوجه لهدم الكعبة فتغلب في طريقه إليها على مجموعة من أهل اليمن حاولت مقاومته ثم هزم قبيلة خثعم أما أهل الطائف فهادنوه و أرسلوا معه أبا رغال ليدله على الطريق ( و قبر هذا الأخير كانت العرب ترجمه بالحجارة )..في مكة نفسها قرر عبد المطلب ألا يواجه أبرهة و اكتفى بأن وكل أمر البيت إلى ربه..تذكر هذه الحادثة في القرآن على نحو يستنكر محاولة أبرهة لهدم الكعبة و هي محاولة لفرض ديانة توحيدية اعترف بها الإسلام فيما بعد و لهدم الأصنام التي أراد الإسلام هدمها لكنها أيضا كانت محاولة للسيطرة على قلب الجزيرة العربية بهذه الطريقة المعروفة في التاريخ للتوسع الإقليمي : نشر الدين السائد في الإمبراطورية الغازية , هذا كرره العرب المسلون أنفسهم فيما بعد و في وقت لاحق الأسبان في أمريكا..نعرف جميعا نتيجة هذه المحاولة لكن الأهم من النتيجة هنا هو أن القبائل في شبه الجزيرة أحست في خضم مواجهة مباشرة مع قوة خارجية قوية جاءت تحمل رغبة صريحة بالسيطرة عليها من خلال دعوة دينية توحيدية , خاصة بعد الأحداث التي تعرضت لها اليمن في صراعها مع القوى الأجنبية , كانت أمام سؤال هويتها الأساسي الذي كان يقوم في نظرها على الإرث المسيحي اليهودي لكنه في نفس الوقت الذي لم يجد أن الانضواء تحت أيا من المسيحية أو اليهودية سوى أن يكون في أفضل الأحوال تعبيرا عن التبعية السياسية و بالتالي الاقتصادية..لهذا سنجد تشديدا في الدعوة الإسلامية أولا على اعتبارها متابعة و تطوير للإرث اليهودي المسيحي لكنها ثانيا ذات طبيعة متمايزة من جهة و من جهة أخرى تستوعبها و تطالبها بالالتحاق بها لا أن تلتحق هي بها..كان هناك مجموعة من المتنورين الذين رفضوا عبادة الأوثان لكنهم بحثوا عن البديل في المنظومات الفكرية الدينية السائدة يومها فتنصر ورقة بن نوفل و عثمان بن الحويرث أما عبيد الله بن جحش فأسلم و هاجر إلى الحبشة و اعتنق هناك المسيحية أما زيد بن عمرو بن نفيل فقد اعتزل قومه و عبادة الأوثان و امتنع في نفس الوقت عن الدخول في المسيحية أو اليهودية..و كانت كهان العرب و ذوو الأسجاع منهم يقولون بقرب ظهور نبي و كان بعض المشتغلين بالأديان و الكهان يبشرون بقدوم نبي , و يقال أن سلمان الفارسي هاجر إلى شبه الجزيرة لما سمعه من قرب خروج نبي فيها , كما كان اليهود ينتظرون منذ نفيهم من فلسطين نبيا يعيد توحيدهم و ينقذهم من الشتات , و هذا ما يجد التعبير عنه في سيرة الرسول في حادثة الراهب بحيرى..و لهذا عندما أعلن الرسول نبوته لأهل مكة خاطبهم قائلا :"إن الذي أنتم عليه ليس لله و لا من الله و لا يرضاه الله , قولوا : لا إله إلا الله و اشهدوا أني رسوله و اتبعوني تطعكم العرب و تملكوا العجم و إن الله قال لي : استخرجهم كما استخرجوك و ابعث جيشا أبعث خمسة أمثاله و ضمن لي أن ينصرني بقوم منكم و قال لي : قاتل بمن أطاعك من عصاك و ضمن لي أنه يغلب سلطاني سلطان كسرى و قيصر".....
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية