في ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية جلس الرجل الأربعيني أبو ياسر ساعات طويلة داخل سيارته الصفراء الصغيرة صينية الصنع متململاً متضجراً و هو ينتظر راكباً يستقل سيارته التاكسي دون أن يأتي هذا الزبون منذ الصباح ، يبدو التململ و التأفف على وجه أبي ياسر و هو ينفخ سحائب دخان سيجارته الحمراء الطويلة في الهواء ، كان أبو ياسر يفكر بعائلته التي تركها في البيت تنتظر عودته محملاً بحاجياتها الكثيرة ، ويفكر بالوضع الاقتصادي المزري الذي ازداد سوءاً بعد بدء المظاهرات التي عمت سوريا منذ منتصف آذار الماضي و انتشار الدوريات و الشبيحة في الساحات و الشوارع و على مفاصل المدينة و الدبابات و المجنزرات في الساحات الرئيسية و القناصة فوق البنايات العالية ، و بينما هو يفكر بشهادته الجامعية التي تزين جدار غرفته منذ تخرجه قبل أكثر من عشرين سنة و لم يستفد منها شيئاً ، و بيت والده في حي الصليبة الذي بيع بعد وفاته لتاجر صاعد من أقارب الأسد ليقيم عليه مشروعاً تجارياً ضخماً ، و من حصته في الإرث الذي استأجر منه شقة صغيرة و تزوج بها و وفر بعض المال ليعمل به ، و كم حاول تنمية هذا المال ؟؟ و دخل عدة مشاريع و تعرض لمحاولات متكررة من النصب و الاحتيال ، و استقر به الحال بما بقي معه من النقود أن يحافظ عليه و يشتري هذه السيارة الصغيرة و يعمل عليها بنفسه بعد أن فقد الأمل بالعمل بشهادته الجامعية ، و قد أضاع سنين طويلة و هو يتوسط و يرشي المسؤلين و المدعومين من أقارب الرئيس و حاشيتهم دون طائل
و بينما كان يدور شريط الذكريات في مخيلة أبي ياسر التعبة المنهكة ، إذ فتح باب السيارة شاب عشريني أرعن قبيح المنظر و هو يقول :
- بكم بتوصلني للقرداحة؟ و رغم أن أبا ياسر لا يحب الذهاب لمثل هذه المشاوير ، لكنه بعد يأسه من زبون آخر أجابه :
- حاجتك 600 ليرة
- ما في غير خمسمية
- ولاك طلاع أحسن من هالوءفة
صعد الشاب العشريني السيارة و أغلق باب السيارة بقوة و استهتار، و ما لبث أن أخرج من جيبه جهازاً خلوياً ضخماً و أخذ يلعب به و يعرض صور عشيقاته و خليلاته و نزواته و سهراته ، ثم بدأ يعرض لأبي ياسر بعض الفيديوهات التي تشير لبطولاته و مغامراته مع الشبيحة في قمع التظاهرات في أحياء اللاذقية و قراها ، فسأله أبو ياسر :
- ليش شو بتشتغل ؟
- كنت شغال عتال بالمينا و هلق متفرغ مع قوات حفظ الامن
- يعني مع الشبيحة
- متل ما بدك سميهم شبيحة شبيحة
- و تركت شغل المينا
- لاء معاشي ماشي هنيك ، بس مفروز عالأمن ، هون اربحلي ، كل يوم باخد 10 لـ15ألف ليرة حسب الشغل
لعنه أبو ياسر في قلبه لعنة كبيرة و كم فكر أن يصطدم سيارته في جدار و يضحي بنفسه مقابل قتل هذا الشبيح القبيح و لكنه استغفر الله وقال في نفسه : ما هو إلا شبيح صغير ، متلو و أمتال ، الله يخلصنا من رأس الأفعى ، و أصل بلاء البلد كلها
أراد أبو ياسر تغيير موضوع الحديث الذي أزعجه كثيراً فقال:
- كم اشتريت هذا الخلوي الجميل
- اشتريتو من كام يوم بـ 25 ألف ليرة
- بـ 25 ألف ليرة ؟!
- أي هذا جوال و كمبيوتر و كاميرا و كل شي
لكن الشبيح عاد لموضوعه الأساسي و قال بحقد دفين :
- بدهم يغيروا بشار الأسد ، ولاك هذا رب ، هذا ما بتغير ، الله بيتغير و هو ما بيتغير
استغفر أبو ياسر ربه في قلبه و هو يسمع هذا الكلام الفاجر و تمنى لو سد أذنيه و لم يسمع مثل هذا الكلام
سار الوقت بطيئاً على أبي ياسر ، و هو يستمع لقصص و بطولات و مغامرات هذا الشبيح السفيه ، و لا يستطيع أبو ياسر الرد إلا بهز رأسه ، و كلما شعر الشبيح بتضايق أبي ياسر من حديثه كلما تبجح واستمر في كلامه البذيء الممل
و كم كانت فرحة أبي ياسر كبيرة عندما قال له الشبيح :
- وقف عندك نزلني
- تفضل انزل
نزل الشبيح مسرعاً دون أن يدفع الأجرة و أغلق باب السيارة بعنف ، فصرخ أبو ياسر:
- الأجرة
- شو؟!! روح ما في مصاري
- يا عمي لسه ما استفتحنا اتفءنا على 500ليرة بس
- أي روح خدها من شيخك العرعور
- ولك يا عمي شو بدي أنا من العرعور و غيرو أنا عم اترزق الله ، اولادي عم يستنوني و الله من أسبوع ما عندي جرة غاز و لا حليب لابني
- شو ، هنت ما بتفهم ولا ، عم تسب الرئيس قدامي ، عم تقول ما في غاز ولا حليب ، بتمشي ولا وديك للفرع
عض أبو ياسر على جرحه و سار هائماً على وجهه و هو يلعن الساعة اللي شاف فيها هالوجه ، و عم يلعن الشبيحة و أبو الشبيحة و الأسد و أبو الأسد اللي خلو هالناس الواطيين يتجرؤوا عليه
و عندما مر أبو ياسر على مزار المقبور حافظ الأسد أخذ يتمتم ويقول:
- أجمل ما قاله الثوار في مظاهراتهم : يلعن روحك يا حافظ ، فهو اصل البلاء في هذا البلد ، لقد حول سوريا إلى مزرعة لآل الأسد ، و جعل هؤلاء الشبيحة كلاباً على أطراف هذا المزرعة ، إلى متى يا رب نبقى في هذا الذل و الظلم ؟، إلى متى يتسلط عليها هؤلاء الأوغاد ؟، و الله إننا رجال ، لكننا عزل
و بينما كان أبو ياسر يلعن حظه العاثر الذي أوقع هذا الشبيح الوغد في طريقه ، و إذا بجوال يرن على الكرسي الذي بجانبه ، نظر أبو ياسر على الكرسي ، فإذا بالخلوي الذي كان يتباهى به الشبيح قد نسيه في السيارة ، رفع أبو ياسر الخلوي مستغرباً ، ضغط زر الرد :
- مين ؟!!
و إذا بصوت الشبيح السفيه يرد بصوت خافت و مؤدب :
- أبو ياسر نسيت الجوال معك ، إذا ممكن ترجعلي ياه
- و الأجرة ؟!!
- عم امزح معك يا رجل ، ارجع بعطيك ياها
- بس قلتلي روح خذها من شيخك العرعور
- هنت ما بتلقى مزح
- لاء ، بلءى ، و رح امزح معك نفس المزحة ، روح خذو من ربك بشار ....
بشار و العرعور... د.هشام الشامي

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية